«تراث الإنسانية» فى مكتبة الأسرة - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 11:31 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«تراث الإنسانية» فى مكتبة الأسرة

نشر فى : الجمعة 22 يوليه 2016 - 9:05 م | آخر تحديث : الجمعة 22 يوليه 2016 - 9:05 م
سعدتُ كثيرا بصدور طبعة جديدة ضمن إصدارات مكتبة الأسرة لهذا العام من موسوعة «تراث الإنسانية» العريقة التى صدرت للمرة الأولى فى ستينيات القرن الماضى. هذه الموسوعة الجليلة التى عكف على كتابتها وتحرير موادها صفوةٌ مختارة من ألمع نجوم الكتابة والأدب والفكر والثقافة والعلوم فى مصر، ولطالما تمنيتُ أن تعاد طباعتها وأن تتوفر نسخٌ منها فى جميع المكتبات ومنافذ البيع، وأن تتاح طبعات متجددة منها وميسورة أمام الشباب.

تعرفتُ للمرة الأولى على مواد متفرقة من هذه الموسوعة/ المجلة سنة 1994، (ثم فى السنوات التالية لها)، عندما كانت تصدر ضمن كتيبات تسمى بنفس الاسم (تراث الإنسانية)؛ عبارة عن مقالات مُستلَة من المجلدات القديمة، كل مقالة منها أو كتيب عبارة عن دراسة مركزة ووافية لأحد الكتب الخالدة التى صارت من عيون التراث الإنسانى، فى الأدب والفكر والتاريخ والفلسفة والفنون والعلوم.. إلخ. لم يتجاوز عدد صفحات الكتيب الواحد أكثر من خمسين أو ستين صفحة من حجم الجيب الصغير (تقريبا تكاد تماثل فى حجمها وقطعها سلسلة المكتبة الثقافية القديمة)، وصدر منها ما يزيد على المائة كتيب، شكلت فى حينها لطالب فى أول المرحلة الثانوية كنزا غاليا وثمينا (كان الكتيب الواحد يباع بعشرة قروش!).

وتراث الإنسانية هنا، بأيسر تعريف وأبسطه، كما شرحه العقاد الذى كان من أبرز المتحمسين والمساهمين فى إنجاز مثل هذه الموسوعة/ الدورية فى الثقافة العربية، «هو مؤلفات كل الأمم لا أمة واحدة، وكل العصور لا عصر واحد، وكل الموضوعات لا موضوع واحد من العلم أو الأدب أو التاريخ أو القصة أو من أشتات علوم الرياضة والكيمياء وطبقات الأرض وفروع الطب والهندسة وكل معرفة من معارف بنى الإنسان فى كل مطلب وكل موطن، وكل زمان».

كانت سلسلة أو دورية (تراث الإنسانية) تصدر مرة فى الشهر، وكان موضوعها الأساس إعطاء فكرة مجملة للقارئ العابر عن كلِ كتابٍ معدود بين أمهات الكتب الكبرى التى يجتمع منها تراث الإنسانية فى أبواب الثقافة المختلفة، ومع هذه الفكرة العامة إلمامة سريعة بترجمة المؤلف لا تزيد صفحاتها وصفحات الخلاصة الموجزة للكتاب على خمس عشرة إلى نحو عشرين صفحة بقطع السلسلة (المجلة).

وضمت صفحات المجلة، ضمنا، تحليلات عميقة ورصينة وموجزة فى الآن ذاته لمختلف التيارات الفكرية والفلسفية والعلمية، لكبار الكتاب فى تاريخ الحضارة العربية والإنسانية، من أمثال: ابن خلدون، وفولتير، وديدرو، وروسو، وهيجل، وابن طفيل، وابن رشد، والغزالى، وابن عربى، وسبينوزا.. إلخ فكانت على الحقيقة أشبه بدائرة معارف مصغرة، من شرق وغرب، لا ترهق قارئها بتفصيلات لا تلزمه فى هذه المرحلة من التعرف الأول على هذه الكتب، وتقوده فى الآن ذاته بسهولة ويسر إلى الارتقاء فى معارفه بالبحث عن هذه النصوص، بعد أن يكون قد ألم بها إلماما جيدا وتعرف عليها بصورة عامة.

وأما الذين كانوا يحررون هذه المواد ويكتبون عن هذه الكتب وهؤلاء المؤلفين، فكانوا من عينة عباس محمود العقاد، زكى نجيب محمود، إبراهيم زكى خورشيد، عبدالحليم منتصر، على أدهم، إبراهيم الإبيارى، عبدالحميد يونس، محمد القصاص، محمود فهمى حجازى، شوقى ضيف، وعبدالحليم محمود.. وعشرات آخرين، وكلهم كانوا بالفعل صفوة العقول المصرية فى مختلف التخصصات.

ولفت نظرى، أن اختيار الأسماء التى كانت تُستكتب أو تُدعى للمساهمة فى مواد هذه الموسوعة/ المجلة لم تكن عشوائية أو مجرد اختيار كيفما اتفق، بل كان يتم اختيار هذه الأسماء وفق رؤية واعية وحاجة علمية تتفق والهدف من هذه السلسلة، فلن يكتب مثلا عن السير الشعبية العربية إلا خبير متخصص مثل المرحوم عبدالحميد يونس، ولن يكتب عن الدراما الإغريقية والمسرحيات اليونانية القديمة إلا مسرحى قدير وافر المعرفة بهذا التراث الزاخر مثل المرحوم إبراهيم سكر.. وهكذا.

سلسلة تحمل هذا الاسم الضخم وتهدف إلى تحقيق هذه الغاية الخطيرة، ويشرف على تحريرها نخبة من الأساتذة المشهود لهم بالكفاية والدراية والعلم الغزير؛ كان لا بد وأن تُعتبَر مرجعا مهما وضروريا لكل طالب وباحث عن المعرفة خاصة إذا كان من المقبلين الجدد على القراءة الشغوفين بالتعرف على أهم وأبرز ما أنتجته البشرية عبر تاريخها وعصورها المتعاقبة.

هكذا مثلت هذه المجلة وموادها الشائقة الممتعة موردا عظيما ومدخلا تعريفيا ممتازا بروائع التراث الإنسانى، شرقا وغربا، منذ أقدم العصور وحتى العصر الحديث. وكم كان رائعا أن تجد زكى نجيب محمود يكتب مثلا عن كتاب (الإمتاع والمؤانسة) للتوحيدى، أو تقرأ لعبدالرحمن بدوى دراسة عن (حى بن يقظان وكتابه ابن طفيل). أو أن تجد المرحوم الشيخ عبدالحليم محمود يعرفك بكتاب (الفتوحات المكية) لابن عربى، أو (إحياء علوم الدين) للغزالى، أو نصوص أخرى لكبار المتصوفة فى التراث الإسلامى بعبارةٍ سهلة وعرض بسيط وشارح للأفكار الصعبة، ثم تقرأ مادة أخرى عن كتاب (التأملات لديكارت) كتبها أحد كبار المتخصصين فى الفلسفة الحديثة بقامة د.عثمان أمين.

ودون مبالغة، كانت المواد التى قرأتها ضمن هذه السلسلة تمهيدا ضروريا لقراءة أصول هذه النصوص فى الأدب والتاريخ والتراث العربى والإسلامى، ولا أنسى أن بسبب المادة التى قرأتها عن كتاب (نهاية الأرب فى فنون الأدب) للمرحوم إبراهيم الإبيارى، وكانت مادة لطيفة جدا، مشوقة وجذابة، سعيتُ إلى قراءة هذه الموسوعة التراثية الضخمة فى أجزائها الثلاثين، وما زال لهذا الكتاب مكانة خاصة فى نفسى، أحبه وأحب مطالعة أجزاء منه من حين لآخر، خاصة تلك التى تتجلى فيها معارف العربى القديم التى تختلط فيها الملاحظة والتأمل بالخرافة والأسطورة، بالقصص والحكايات الخيالية.. إلخ.

ومنذ بدء العمل فى هذا المشروع سنة 1962 وحتى توقفه عن الصدور فى 1965، لم نشهد مشروعا كبيرا وضخما لإنجاز مثل هذه المجموعات التأليفية الكبرى، التى هى فى الأصل مشروعات تثقيفية بامتياز تكاد تكون عنصرا تكوينيا رئيسيا ضمن أى مخطط للنشر العام فى الدول الأوروبية، عشرات من سلاسل التراث الإنسانى على هذا النهج صدرت باللغات المختلفة، منها على سبيل المثال واحدة من أكبر هذه المجاميع باللغة الإنجليزية، وهى مجموعة «كتب العالم الكبرى» The World Great Book التى أشار إليها العقاد فى أكثر من مقال كتبه عن سلسلة (تراث الإنسانية) العربية والتى ساهم فى تحريرها وكتابة مواد قيمة نشرت ضمن موادها.

أكثر من خمسين عاما ونحن نفتقد لمشروعٍ واحدٍ يماثل هذا المشروع، نصف قرن ولم يخطر على البال أن يتم التخطيط والإعداد لمشروعات مثل هذه بنفس الدرجة من الجدية والإخلاص والرصانة التى توفرت لمشروع (تراث الإنسانية) فى الستينيات، لكن ورغم كل الفوضى والارتباك وغياب مثل هذه المشروعات الكبرى عن سياساتنا الثقافية المعاصرة، فمن الواجب الإشادة والتنويه بإعادة طبع ونشر موسوعة (تراث الإنسانية) وكذلك لفت أنظار الشباب والمقبلين على القراءة والمعرفة إلى أهمية مثل هذه المجموعة فى مساعدتهم على تكوين معارفهم وإرشادهم إلى تلك الكنوز.