العيش مع الطبيعة.. الأمل الهش - نبيل الهادي - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 6:29 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

العيش مع الطبيعة.. الأمل الهش

نشر فى : الثلاثاء 22 أغسطس 2023 - 7:30 م | آخر تحديث : الثلاثاء 22 أغسطس 2023 - 7:30 م

عندما اخترقت مياه النيل الصحراء الكبرى منذ آلاف السنين بدأ هذا التحول الكبير يؤثر على حياة كل من عاش على أرض مصر من كل الكائنات. وعندما اخترع المصريون الزراعة منذ سبعة آلاف سنة ــ وربما أكثر ــ كانت هذه بداية حضارتهم على ضفاف النهر. وعلى امتداد تلك السنين ترك المصريون مساحات كبيرة من الأراضى خاصة على ضفاف النهر وحول البحيرات الشمالية ومناطق أخرى للطبيعة البرية، تزدهر فيها حياتهم وأنشطتهم حتى وإن لم يدركوا ذلك بصورة واضحة.
لكن مع تولى محمد على الحكم ــ منذ أكثر من قرنين ــ تنبه لأن الوسيلة الرئيسية التى يمكن من خلالها أن يمول طموحاته هو أن يتوسع فى الأراضى الزراعية ويستقدم المحاصيل التى يمكن بيعها فى السوق العالمية، وذلك إلى جانب استقدام الأشجار المتنوعة المثمرة والأخرى التى تم زراعتها لقيمتها الجمالية. بنهاية عهد أسرة محمد على تم إضافة نحو ثلاثة ملايين فدان (للدقة اثنان وتسعة أعشار المليون فدان) مقارنة بنحو مليونى فدان من الأراضى الزراعية كانت فى بداية حكمه.
فى العهود التالية تم الاستمرار فى إضافة أراض زراعية على حساب مناطق طبيعية بعضها صحراء، ولكنها كما يعرفها لنا العلم مليئة بالحياة الهشة والهامة للغاية. كما تم أيضا التوسع فى المناطق العمرانية بصورة غير مسبوقة سواء على حساب الأراضى الزراعية الخصبة فى الدلتا والوادى أو فى مناطق صحراوية على حافة الصحراء وعلى امتداد ساحل البحر المتوسط والبحر الأحمر.
• • •
يخبرنا علماء الطبيعة الآن أننا فى موقف صعب للغاية فيما يخص موقف الطبيعة التى تتشابك وتتراكب أجزاؤها فى صورة مذهلة لكى تدعم الحياة على كوكب الأرض لكل الكائنات ومنها بالطبع البشر. ما يحدث منذ عقود هو تدهور غير مسبوق للحياة الطبيعية ومكوناتها، لذا تنذر الأمم المتحدة والعديد من العلماء أننا على وشك مواجهة انقراض سادس كبير لبعض الكائنات الحية. السببان الرئيسيان لذلك هما التغير المناخى وتغيير استخدامات الأرض.
شبكة الطعام على الأرض شبكة معقدة ومركبة للغاية ولا تعمل ربما بالصورة التى نتصورها، لذلك للعلم وعلماء الطبيعة دور جوهرى فى نقل معرفتهم لنا. فمثلا، تنسيق المواقع وزراعة الحدائق الذى ازدهر خلال القرنين الماضيين فى العالم، بالرغم من بدايته فى مصر فى القرن العاشر إلا أنه يشهد ازدهارا كبيرا فى العقود القليلة الماضية، ويركز أساسا على القيم الجمالية البصرية. بينما تغيب الوظيفة لتلك النباتات ودورها الحاسم أو الضار فى دعم شبكة الطعام والتى بدونها نواجه هذا التحدى الكبير للحضارة البشرية بالانهيار.
يخبرنا أحد أشهر علماء الحشرات والبيئة البرية وهو دوج تالامى، الأستاذ بجامعة ديلاوير بالولايات المتحدة، أن النباتات تطور لنفسها وسائل دفاعية لتحمى نفسها من المفترسات، ونتيجة لآلاف السنين من التطور استطاعت بعض الكائنات تطوير علاقة مع أنواع محدودة للغاية من تلك النباتات والتى يمكن من خلالها التغلب على تلك الوسائل الدفاعية لتتمكن من التغذى عليها وكذلك الملقحات مثل أنواع النحل المختلفة والفراشات للقيام بدورها فى نقل البذور، والذى بدونه ستتدهور أعداد النباتات بشدة. كما أظهرت الدراسات أن الكمية الكبيرة من اليرقات التى تحتاجها صغار الطيور لاكتمال نموها قبل أن تطير تحتاج أنواعا متعددة من النباتات، والتى نتيجة لآلاف السنين من التطور هى نباتات من نفس البيئة أو كما يطلق عليها النباتات المحلية التى تمثل المكون الرئيسى فى شبكة الحياة على الأرض ويتسبب غيابها فى تدهور شبكة الطعام والحياة المحلية. على العكس من ذلك، فإن النباتات التى مواطنها الأصلية بلاد أخرى لا تدعم إلا القليل جدا من تلك الحشرات الضرورية لاستمرار شبكة الطعام، كما أن بعضها قد لا يدعم أيا منها إطلاقا.
لأن الطبيعة معقدة فإن فوائدها أيضا مركبة ومتعددة، نعرف مثلا أن النباتات البرية تكاد لا تحتاج لمياه الرى (ربما القليل فى بداياتها) كما أنها تطلق الأكسجين، وتمتص ثانى أكسيد الكربون، وتساعد فى تحسين جودة التربة، وتتحمل قدرا من الملوحة والتلوث، وبعضها له فوائد طبية مثبتة وأخرى محتملة، والعديد من الفوائد الأخرى هو ما يوضح القيمة الكبرى لتلك النباتات التى قد يعتبرها البعض مجرد حشائش لا قيمة لها.
هناك فى مصر بعض الدراسات التى تمت على النباتات البرية ولكننا بالتأكيد نحتاج للمزيد والمزيد من الدراسات التى تربط بين تلك النباتات والكائنات الأخرى. كما نحتاج إلى تجارب حقلية عديدة، للتمكن من التصور ماذا سيحدث لو حولنا زراعة النجيل على طول الساحل الشمالى والبحر الأحمر وفى المدن (والتى طبقا لبعض العلماء لا تمتص ثانى أكسيد الكربون بل ربما تفعل العكس) إلى نباتات برية؟. وهذا النجيل الشره للمياه لو تحول إلى نباتات برية كم من المياه سنوفر وكما من الحياة الطبيعية بما فيها الطيور المهاجرة والفراشات سنستعيد وكم من الفوائد المباشرة وغير المباشرة ستضيفه تلك الكائنات للبيئة التى نعيش فيها. يمكن أيضا إضافة النباتات البرية للجزر بالشوارع وعلى جانبيها، وهو ما يمكن ليس فقط من استعادة مساحات كبيرة من الحياة البرية ولكن أيضا من التعامل مع مياه الأمطار عند سقوطها، إذ تمتصها تلك النباتات وتقوم جذوره بتنقيتها قبل أن تنتقل إلى المياه الجوفية السطحية. كما يمكن لزراعة حواف الترع والأراضى الزراعية بالنباتات البرية المزهرة ما يمكن من استعادة الأنواع البرية من النحل والكائنات الأخرى مما يساهم فى تحسين نوعية المزروعات وأيضا التقليل من استخدام المبيدات والأسمدة.
• • •
لإنقاذ الحياة على كوكب الأرض يقدر بعض العلماء أننا بحاجة إلى استعادة نصف المساحة على كوكبنا إلى طبيعتها الأصلية، بينما تقدر اللجنة الحكومية الدولية للتنوع البيولوجى أن الحد الأدنى الذى يجب أن نستعيده بحلول العام ٢٠٣٠ هو ثلث المناطق الطبيعية، وذلك لإيقاف التدهور الهائل للكائنات الطبيعية والبدء فى استعادة ازدهار الحياة البرية. وهى مهمة ضخمة، لكنها ضرورية إذا أردنا استمرار الحياة لجميع الكائنات على الأرض بمن فيهم نحن.
لو تحولت المحميات الطبيعية فى مصر على امتداد أرجائها لأماكن إنتاج وإكثار النباتات البرية لأمكن لتلك المحميات استغلال مواردها بصورة أفضل، وربما الحصول على موارد هى فى أمس الحاجة إليها بدلا من إضافة خدمات تجارية خاصة لها تقوم بالعكس من ذلك تماما. ومن خلال تعاون تلك المحميات مع الجامعات الإقليمية والمدارس يمكن البدء فى إنشاء حدائق برية تعليمية صغيرة فى داخل تلك المؤسسات لاستخدامها فى التعليم ونشر الوعى الضرورى للغاية. كما سيخلق هذا حراكا مهما وطلبا كبيرا على متخصصين وباحثين فى علوم النباتات والحشرات ــ ما يسمى بالإيكولوجيا التطبيقية ــ وسيشجع العديد من الشابات والشبان للانضمام لهذا المجهود الغاية فى الأهمية، وربما سيمكن من خلق كتلة حرجة تساعد على التمهيد للتحول المعتمد على استعادة الطبيعة والعيش معها لأننا لا نملك غير ذلك الآن.
أمامنا تحدٍ كبير نواجهه ولكل منا دوره سواء حكومة أو جهات للبحث أو أفرادا يمتلكون حدائق خاصة، لو قام جزء كبير منهم بالبدء بهذا التحول لمصلحة أولادهم وأحفادهم سنكون فى بداية تحول مهم نحتاجه جميعا. إذن، سيساعدنا المزيد من البحث فى النباتات البرية والكائنات التى تعتمد عليها فى تطوير وتحسين ما يمكن أن نقوم به خلال السنوات القليلة القادمة، لأننا سنحتاج لهذا التوازى فى الجهود العملية والبحثية لنواجه هذا التحدى وخلق أمل حقيقى نستطيع أن نعيش فى إطاره.
الأمل حتى لو كان هشا فهو جميل ومهم، فمن الصعب علينا الحياة بدونه؛ ولكن وكما يقول دوج تالامى تحويله إلى عمل بالتأكيد أجمل وأهم.

التعليقات