كنت أتمنى أن أكتب عن أسس السلام والاستقرار والتعاون المشترك لتحقيق المصالح الوطنية لدول الشرق الأوسط، وكيفية تحقيق الاعتماد المتبادل بينها بما فى ذلك إسرائيل، ونحن نعلم أن أحدهم أدوات حل الصراع، بعد إنشاء الدولة الفلسطينية فى الضفة الغربية وغزة وعاصمتها القدس الشرقية، خلق مصالح مشتركة ومنافع متبادلة لمختلف الأطراف بحيث يصير عائد السلام والتعاون أكبر بكثير عن الصراع والحرب، ولكن ما يقوم به مجلس الحرب الإسرائيلى برئاسة نتنياهو من إبادة جماعية للفلسطينيين فى غزة، ومن بعدها فى الضفة الغربية أودى بأية فرص لحل الصراع العربى الإسرائيلى وفى قلبه إنشاء دولة فلسطينية مستقلة، والواضح من قراءة ما يصدر عن مجلس الحرب الإسرائيلى وبقية وزراء الحكومة اليمينية المتطرفة وبعض وزرائها ممن يمكن وصفهم بالنازيين والفاشيين، أن المستهدفين ليسوا الفلسطينيين وحدهم، ولكن العرب أجمع كأمة وكوطن وكدول أعضاء فى الجماعة الدولية، ولقد أكدت أيضا تصريحات نتنياهو المستمدة من التوراة السياسية، وليست تلك التى أنزلت على نبى الله موسى، والتى تدعو إلى القضاء البات على غير اليهود، والتخلص منهم، واقتلاعهم حيث وجدوا وبإنهاء حضورهم تهيئة لبناء الدولة اليهودية الكبرى والتى لا حدود لها، ولا قيود على توسعها، لا تقف عند نهر الأردن والليطانى ولا بحيرة طبرية، وإنما تمتد إلى كل حدب وصوب يراه الإسرائيليون والصهاينة ضروريا لبناء دولة عنصرية أساسها عقدة التوسع على أساس النقاء اليهودى.
ومما يثير الاهتمام والتساؤل ليس فقط ما يصدر عن مجلس الحرب الإسرائيلى والذى يتخطى الحرب الشرسة ضد الفلسطينيين الأبرياء المدنيين غير المسلحين، إلى رسم خريطة جديدة للشرق الأوسط تسيطر فيها إسرائيل على الوطن العربى، تارة بالتوسع الإقليمى/ الأرضى territorial، وتارة بالتوسع المالى والتجارى، وتارة بتصدير التكنولوجيا الأمنية للدول العربية، وهى تكنولوجيا مخترقة من جانب حكومة إسرائيل، وتارة بمد طرق التجارة الدولية إليها ومن خلالها، والجديد الذى لم نسمع عنه من قبل أو نراه أو نقرأه فى أى تاريخ مكتوب أن يحضر اجتماعات مجلس الحرب الإسرائيلى، رئيس الولايات المتحدة ووزير خارجيتها ومدير مخابراتها على التوالى، وينبغى أن نفهم مدلول هذا التداخل غير المسبوق بين الدولتين، فمن ناحية يؤكد أن الأمن الإسرائيلى جزء لا يتجزأ من أمن الولايات المتحدة وأن أى تهديد لإسرائيل يعد تهديدا للولايات المتحدة، ويثير ذلك سؤالا مشروعا: كيف يمكن تفسير وجود القواعد الأمريكية فى الدول العربية وهل تستخدم لحماية أمن الدول المضيفة أم لوضع قيود على اختياراتها الاستراتيجية والتى تتعلق أو تمس المصالح الأمريكية والإسرائيلية، ومن جانب آخر، تقدم الولايات المتحدة بناء على رؤيتها لأمن إسرائيل الدعم العسكرى والمالى والدولى غير المحدود بما فى ذلك القوات الخاصة والذخيرة وأحدث ما لديها من أسلحة تدمير، ومن جانب ثالث، التوافق على مستقبل المنطقة بما يحقق السيطرة الإسرائيلية على مفاصل الوطن العربى وموارده اللازمة لأوروبا والولايات المتحدة، وربما وضع قيود على تصديرها إلى الدول المنافسة فى مناطق العالم المختلفة، بما يؤدى إلى انهيار الوطن العربى كإقليم فرعى فى النظام الدولى.
لقد آن الأوان لأن نقرأ ونفهم الوثائق الاستراتيجية الإسرائيلية، وهى ما تلتزم بتحقيقه الحكومات الإسرائيلية المتتالية، والتى تستهدف بناء الدولة الإسرائيلية الكبرى والتى تضم ما يراه اليمين الإسرائيلى الصهيونى المتطرف ضروريا لهذه الدولة، وحجر الأساس هو عدم التفريط فى شبر من الأراضى الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط، أى الضفة الغربية وغزة، والسيطرة على شرق المتوسط، والتوسع فى الغرب والشرق والشمال والجنوب، يقتضى تحقيق هذا الهدف هدم الوطن العربى فكريا وثقافيا بل وجغرافيا، وأكثر من ذلك اختراق الدول العربية الكبرى بغرض إضعافها، وهكذا تحل النظرة القطرية الضيقة والجامدة محل الرؤية القومية التكاملية والمفيدة للجميع.
إذا كانت تلك رؤية إسرائيل للمستقبل، فما هى رؤيتنا نحن لدولنا ووطننا ومصالحنا، ما الذى نريده فى المستقبل لأنفسنا ولغيرنا؟
من المؤكد أننا نريد منطقة آمنة تضم العرب جميعا، وتضم إسرائيل وما عداها إن اعترفوا بالتعايش السلمى المشترك، ونسعى إلى تنمية اقتصادية تمس كل مواطن عربى وحياته ومعاشه، ونكدح لتحسين جودة الحياة لنا ولغيرنا، ولتحقيق ذلك نأمل فى دول جوار تحترم مصالحنا ونحقق معها المصالح المشتركة، نريد دولة إسرائيلية طبيعية لها حدود معترف بها، لا تنظر إلى ما ورائها بغرض التوسع، ولا شك أن الاختبار المؤسس لذلك هو اعتراف إسرائيل بضرورة وأهمية إنشاء دولة فلسطينية مستقلة فى الضفة الغربية وغزة وعاصمتها القدس الشرقية. إن ذلك يثبت أن إسرائيل يمكن أن تندمج معنا فى إقليم متكامل بعيدا عن الانهيار.
وفى هذه الحالة يمكن أن نعتبر مجلس الحرب الإسرائيلى والمتعاملين معه ظاهرة طارئة تزيحها ترتيبات السلام التى يمكن أن تبدأ الآن ومن ثم تطوق خطط نتنياهو بالتطهير العرقى فى رفح وتهجير الفلسطينيين خارج وطنهم، أمن إسرائيل ليس فى التوسع والحروب الإقليمية ولكن فى إدماجها فى الإقليم كدولة طبيعية مثل سائر الدول أعضاء الجماعة الدولية.