أمــــــــــان - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 10:38 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أمــــــــــان

نشر فى : الجمعة 23 مارس 2018 - 9:20 م | آخر تحديث : الجمعة 23 مارس 2018 - 9:20 م

تلك بداية تقليدية، عن الحاجات الأساسية التى يسعى إليها كل حيّ؛ إنسانًا كان أو حيوانًا. يرتب هرم ماسلو الشهير الدوافع التى تحرك الأشخاص؛ يضع فى قاعدته الحاجات الفسيولوجية كتوفير الطعام، ويرتقى تدريجيًا إلى أن تتربع على قمته مسألة تحقيق الذات.

وضع ماسلو هرمه منذ ما يزيد على نصف قرن؛ نصف قرن والناس فى الشرق والغرب يواصلون عملية البحث عما يأكلون، منهم من يستجلب طعامه عبر المحيطات؛ مِن أفخم المطاعم وأشهرها، ومِنهم مَن يقع فريسة لمجاعة مُهلكة، وبين هذا وذاك يكد الملايين حول العالم للحصول على قوت يومهم، دون أن يحظوا بفائضٍ للغد.

***

سمعت مِن نساء تقدَّم بهُن العمر؛ عن أكلات تفنَّن فى إعدادها مِن بقايا الطعام؛ اتقاء إهداره، وإهدار موارد معيشية هى بالأصل شحيحة. سمعت أيضًا عن أكلات بسيطة التكوين، تُصنَع خِصيصًا كى تُعبّئ المَعِدة، وتورثها إحساسًا بالامتلاء، فلا يستهلك الآكل مِنها الكثير، فى حين ينتابه شعور بالشبع التام. سمعت وكانت الحكايات عن أعوام اشتدت فيها الأزمةُ، ونشطت القريحةُ؛ تحاول أن تجد البدائل وتبتكر الحلول.

***

عدس وفول وباذنجان.. عيش وأرز وبصل. فى عهودٍ خلت؛ كانت هذه المُكونات فى متناول اليد الخشنة، التى لا تعرف مِن الرفاهة إلا أقلّ القليل؛ تستطيع ربةُ مَنزل مِن أسرة مُتوسِّطة الحال، أن تحصل عليها بلا مَشقّة كبيرة ولا تدبير وتقتير مُمتد الأجل، لكن تدهور الأوضاع فى الآونة الأخيرة، جعل ما كان متاحًا فى السابق؛ بعيدًا، عزيز المنال. بين يوم وليلة ارتفعت الأثمان وتضاعفت، حتى هجرت أغلبُ الأصناف موائد البُسطاء، بل وموائد مَن توسطوا المراتب؛ ما بين فقر مُدقع، وغنى وارف وثير. يقول مَن ضَجَّت أحشاؤهم وماجت لضيق ذات اليد:”رضينا بالهَمّ والهَمّ مش راضى بينا“.

***

أمام الضغوط المتزايدة التى تمسُّ الاحتياجات الأساسية، بات كثير الناس فى مأزق، وأمام المأزق الذى يكتسب صفةَ الديمومة، يسلك هؤلاء مَسالك مُتباينة؛ يخضعون ويساومون وينافقون، ويجدون لأنفسهم عذرًا، ويعذرهم أيضًا مَن مَرَّ بحالِهم أو أقام فيها ردحًا من الزمان، فالجوع مَذَلّة؛ البحث عن فتات فى صندوق قمامة، التنقيب عن بقايا تركها آخرون؛ ربما أقل جوعًا؛ أمر يصد الروح ويوصدها، ويسحق بهاءَها سحقًا.
تبعًا للهرم الصامد العتيق: سدُّ الجوع، إرواءُ الظمأ، الشهيق والزفير والنوم؛ ضرورات لا غنى عنها، وفى المرتبة التالية يأتى الأمان. أمان الجسد من العنف والاعتداء، أمان الوظيفة والمدخرات والموارد، وأمان النفس والأهل والأصحاب.

***

كثيرًا ما رأيت الأمان أحق بالمرتبة الأولى فى مجتمعات أرست دعائمها، وعرفت صورة من صور الاستقرار، ودرجات مُتباينة مِن الظلم وتبعاته؛ مجتمعات قد يملك المرء فيها بعضًا من الطعام، ومصدر مياه، تدخل أنفاسه الصدر وتخرج منه، ويسقط فى النوم رغمًا عنه؛ لكنه يشعر بتهديد أكبر وأعمق مِن تهديد الجوع؛ إذ هو عاجز عن حماية نفسه وجسده مِن بطش، لا قِبَل له بردّه.

سمعت ورأيت بعينى، وأدركت أن ثمة معاناة لا تضاهيها أخرى. أنصت لأحاديث طويلة عن الشعور بالخوف الذى لا يزول.. عن انتظار المُرّ، والتعامل مع المجهول.. عن الإحساس بالتوتر والتوجُّس والقلق مِن الغد، أو حتى مما سيحدث فى غضون ساعات أو دقائق لم تعد مأمونة.. الفزع مِن السير فى الشارع ومِن طرقة غير مقصودة على الباب.. مِن حلول الليل، مِن الظلام ومِن كوابيس تنتهك سلامَ الغفو، وتقوِّض سكينة النائمين.

***

فى مثل هذه المجتمعات، قد يكون الصبر على الجوع أمرًا واردًا، أما أن يشعر المرء بتهديد مَاثل ومُتواصِل، لوجوده وسلامته، وسلامة مَن يحب؛ فأمر عسير. فى أفلام الحب وشاعريات الماضى اللطيف، يقول الحبيبان كُلٌّ للأخر؛ ”نعيش مع بعض ولو فى عشة“، و“ناكلها ولو بدقة“، والمعنى أنه ما دمنا معًا آمنين مطمئنين؛ فلا شيء آخر يُهِم، أما القصور، والخدم والحشم، والمبهجات مِن الأطعمة والمتاع؛ فلا تساوى شيئًا فى حال الفراق وفقدان أسباب الأمان.

***

يتعامل البشر مع واقع الجوع بشتّى ألوان التحايُل. يتناولون ما يُؤكل وما لا يُؤكل، يصبرون، ويُقلِّصون مُتطلبَاتهم إلى الحدود الدنيا، ويحدُّون مِن رغباتهم حتى تفتُر، لكن أساليب التكيف وطرائقه، تفشل فى العادة أمام العجز عن توفير بيئة آمنة؛ ومَن مِن الناس قادر على ممارسة حياته تحت وطأة خوف لا ينقضى، ومَن مِن الناس لا يريد ضمانة بأنه سيعيش ليسعى ويكد؛ دون أن يتعرض لغدر أو إيذاء ؟ مَن مِن الناس يستسيغ الشعور بأنه مُراقب، مَرصود. أنه قد يُسحَق فى غمضة عين، قد يختفى بفعل فاعل مَعروف؛ لن يدينه أحد أو يفضح فعلته. أنه قد يُمسى مُعتقلًا أو سَجينًا، وقد يطاله أو يطال ذويه السوء؛ مِن لا حيث لا يدرى ولا يحتسب؟

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات