ما أشبه اليوم بالبارحة! - عمرو حمزاوي - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 9:43 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما أشبه اليوم بالبارحة!

نشر فى : الجمعة 24 فبراير 2023 - 8:40 م | آخر تحديث : الجمعة 24 فبراير 2023 - 11:04 م
مر عام كامل على الغزو العسكرى الروسى للأراضى الأوكرانية.
مر عام كامل على القتال والمقارعة بين الأسلحة الروسية وبين الأسلحة الأمريكية والأوروبية التى أرسلت إلى الجيش الأوكرانى ليستخدمها مع عتاده السوفييتى القديم.
مر عام كامل على سقوط الضحايا والكر والفر حول مدن وقرى فى شرق وجنوب أوكرانيا، وعلى موجات لجوء ما يقرب من ثمانية ملايين من الأطفال والنساء والرجال إلى بلدان أوروبية مختلفة.
مر عام كامل على العقوبات الاقتصادية والتجارية الغربية على روسيا، وعلى تداعياتها الفادحة على الأسعار العالمية للغذاء وأسعار الطاقة والاستمرار الآمن لوارداتها، وعلى معدلات التضخم المرتفعة والنمو الاقتصادى المنخفضة التى ترهق كاهل فقراء العالم فى بلدان الجنوب وتحاصرهم بأخطار المجاعات والعجز المالى والاستدانة.
مر عام كامل على اشتعال سباق تسلح عالمى أطرافه المباشرة روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا التى ترفع بلدانها من موازناتها العسكرية على نحو غير مسبوق (١٠٠ مليار يورو لتحديث الجيش الألمانى نموذجا)، وأطرافه غير المباشرة قوى عالمية كالصين المتخوفة من اتساع فجوة التكنولوجيا العسكرية بين الغرب وبينها وتطور أسلحتها (مناطيد التجسس مثالا) والهند القريبة تاريخيا من موسكو واقتصاديا من واشنطن ومن العواصم الأوروبية والراغبة فى الاقتراب عسكريا وتكنولوجيا من مصاف الكبار.
مر عام كامل على اشتعال سباق آخر، سباق التصعيد السياسى بين روسيا التى ترى نفسها مهددة وجوديا ومهددة فى أمنها القومى بفعل ما كان قبل الحرب خطر امتداد حلف الناتو إلى جوارها المباشر بانضمام أوكرانيا إلى عضويته وما صار خلال الحرب واقع وصول الحلف إلى حدود روسيا بطلب السويد وفنلندا الانضمام إليه، وبين المعسكر الغربى ــ بقيادة الولايات المتحدة ــ الذى يرى روسيا كقوة عدوانية وتوسعية تريد إعادة فرض سيطرتها على بلدان وسط وشرق أوروبا ودول البلطيق، وجميعها إما خرجت من عباءة كتلة الاتحاد السوفييتى السابق أو استقلت بعد انهياره فى تسعينيات القرن العشرين.
مر عام كامل على اشتعال سباق التصعيد السياسى من قبل روسيا التى ترى نفسها فى مواجهة مع نازيين جدد فى أوكرانيا تتهمهم موسكو باضطهاد المجموعات العرقية الروسية، ومع أوروبا التى يراها الرئيس فلاديمير بوتين وحكومته فى وضعية انسحاق للإرادة الأمريكية وعلى استعداد فى غربها كوسطها وشرقها على معاداة روسيا وهى جارة أبدية للأوروبيين من العبث التاريخى والجغرافى تهميشها، ومع الولايات المتحدة التى يدرك بوتين وحكومته رغبتها فى ممارسة الهيمنة الانفرادية على العالم والضغط على روسيا الكبيرة عسكريا واقتصاديا وتجاريا والحد من مناطق نفوذها. ولم يكن ما حمله الخطاب الأخير لبوتين بمناسبة التقييم السنوى لحالة الاتحاد الروسى من استنهاض للشعور القومى بإشارات إلى النازيين الجدد والدبابات الألمانية التى عادت إلى الحدود واستحالة هزيمة بلاده مهما تكالبت عليها الضغوط والعقوبات سوى تعبير جلى عن كيف يرى الرجل وترى حكومته الأوضاع من حولها.
• • •
مر عام كامل على تورط الولايات المتحدة الأمريكية فى تصعيد سياسى مشابه، وإن بتوظيف مفردات أخرى. فالغزو الروسى لأوكرانيا فى قراءة إدارة الرئيس جو بايدن له هو عدوان غير مبرر من ديكتاتور متعطش فى الحد الأقصى إلى اقتطاع أراضى الآخرين فى جواره وإلغاء استقلالهم وسيادتهم لاستعادة الإمبراطورية السوفييتية الضائعة وفى الحد الأدنى إلى السيطرة على مقدراتهم عبر تهديدات مستمرة لأمنهم واستقرارهم. يصبح الصراع على أوكرانيا، إذا، صراعا بين العدوان غير القانونى على أرض الآخرين وبين الدفاع الشرعى عنها، بين اقتطاع واحتلال أقاليم دول مستقلة وذات سيادة وبين مساعدة تلك الدول للوقوف فى وجه الغزو والعدوان، بين استخدام القوة العسكرية المفرطة لتدمير المنشآت والممتلكات وترهيب السكان فى الدول المعتدى عليها وبين توظيف السلاح لردع المعتدى وحماية الأفراد والممتلكات والمنشآت، بين الديكتاتورية والديمقراطية، بين الشر والخير. هكذا تأتى من واشنطن مفردات التصعيد السياسى فى مواجهة موسكو، وهكذا يتحدث بايدن فى خطاباته داخل بلاده (حالة الاتحاد فى مارس ٢٠٢٢) وخارجها (خطاب وارسو فى فبراير ٢٠٢٣).
مر عام كامل على حدوث تقلبات خطيرة فى السياسات الأوروبية التى كان اتحادها يسعى دائما إلى الحفاظ على علاقات سلام وتجارة وتعاون مع روسيا، ليس فقط لكونها المورد الأول للطاقة للقارة العجوز. بين فبراير ٢٠٢٢ وفبراير ٢٠٢٣، تحولت أوروبا من جهة إلى كتلة تفرض العقوبات التجارية والاقتصادية على روسيا وتحاصر صادراتها من الطاقة على الرغم مما يعنيه ذلك من غياب أمن الطاقة وارتفاع أسعارها على نحو يرهق الشعوب والاقتصاديات، ومن جهة أخرى إلى كتلة سياسية تشارك الولايات المتحدة فى توريد السلاح إلى أوكرانيا وفى الضغط من أجل ضم أعضاء جدد إلى حلف الناتو وفى رفع موازنات الجيوش والدفاع وفى إنتاج ذات خطاب التصعيد السياسى الصادر القادم من الولايات المتحدة بشيطنته لروسيا، وتجاهله لمقتضيات أمنها القومى وللتهديدات التى يمثلها اقتراب الناتو من حدودها، وادعاء أن الصراع فى أوكرانيا هو صراع بين الغزو الإجرامى والدفاع الشرعى وبين الديكتاتورية والديمقراطية وبين الشر والخير. ليست أوروبا اليوم كتلك التى عهدناها فى الصراعات والأزمات السابقة مع روسيا، باحثة عن التهدئة والتفاوض والتسوية السلمية ومتفهمة لمخاوف الجارة الكبيرة فى الجغرافيا والتاريخ والموارد الطبيعية والقوة العسكرية ومدافعة أيضا عن استقلال وسيادة بلدان الشرق والوسط والبلطيق، ومتحفظة على التبعية العمياء للولايات المتحدة. ليست هى أوروبا التى احتوت التدخلات العسكرية الروسية فى ٢٠١٤ و٢٠١٦ والتى تفاوضت مع بوتين من خلال وساطة ألمانية وفرنسية وأبرمت معاهدة مينسك، بل هى أوروبا السلاح الغربى على الجبهة الأوكرانية وارتماء دول الشرق والوسط والبلطيق فى الأحضان الأمريكية والضغوط الداخلية على ألمانيا وفرنسا لإرسال المعدات العسكرية الثقيلة ورفض الطاقة الروسية وإن انهار النمو الاقتصادى وغاب الأمن، وأوروبا التأييد الأحادى لأوكرانيا والعداء لروسيا على نحو تتشارك به أحزاب اليمين واليسار ولا يشذ عنه غير أحزاب اليمين المتطرف واليسار الراديكالى فى دليل بين على أزمة السياسة الأوروبية التى لم تعد تقبل الرأى الآخر (جلسات الدورة الأخيرة لمؤتمر ميونيخ للأمن مثالا).
مر عام كامل على غياب مبادرات حقيقية للتهدئة بين روسيا وأوكرانيا، وضغوط فعلية لدفع الحكومتين إلى مائدة المفاوضات، وترويج جاد لرؤى للتسوية السلمية مع غياب إمكانية الحسم العسكرى. تدور رحى الحرب فى القارة الأوروبية منذ فبراير ٢٠٢٢ ويسقط الضحايا من العسكريين والمدنيين وينتشر الدمار وتتواصل موجات اللجوء وتتأزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتتصاعد أحاديث السلاح المرسل إلى ساحات القتال وبرامج التسليح، كل ذلك ولم تخرج مبادرة دبلوماسية واحدة للتهدئة ولا جلسة تفاوض واحدة للتفتيش عن فرص التسوية السلمية. والمعنى الوحيد لهذه الحقيقة البائسة هو انتفاء إرادة أطراف الحرب المباشرين وغير المباشرين لوضع حد لها، هنا لعدم الاعتراف بشرعية المخاوف على الأمن القومى الروسى وهناك لذيوع أوهام الحسم العسكرى والنصر النهائى بين الأمريكيين والأوروبيين المنسحقين لإرادتهم. ومن وراء المطالبة الروسية العادلة بعدم تجاهل مقتضيات الأمن القومى تتخفى رغبة بوتين وحكومته فى إحياء مجال نفوذ قديم وتوظيفه فى التنافس العالمى مع الولايات المتحدة والصين وأوروبا، ومن وراء أوهام الحسم العسكرى الأمريكية تتخفى دوافع الحفاظ على الهيمنة الأحادية لواشنطن على النظام العالمى بتركيع موسكو وتحذير بكين، ومن وراء تشدد الأوروبيين وعسكرة سياستهم وغياب فعلهم الدبلوماسى تتخفى مساعى حكوماتهم لصرف نظر الشعوب عن أزمة الديمقراطية التى تهددها قوى أقصى اليمين واليسار وتجرفها المجموعات العنصرية إلى حواف أزمة وجودية تضاف إليها التراجعات الاقتصادية والإخفاقات الاجتماعية والبيئية. كل طرف من الأطراف الكبرى للصراع على أوكرانيا يغنى على ليلاه، والبلد المعتدى عليه ومكان ساحات الحرب صار عنوانا للعبة أمم تتجاوزه بكثير ولن تهدأ قريبا.
• • •
مر عام كامل على ابتعاد الصين عن التورط فى الغزو الروسى الذى صار حربا روسية أوكرانية، وعلى ابتعاد الهند والعدد الأكبر من مراكز الثقل فى الجنوب العالمى بما فيها بلداننا العربية عن الاصطفاف إن مع موسكو أو مع كييف ومن خلفها واشنطن والعواصم الأوروبية. لسان حال الجنوب العالمى هو أن هذه ليست حربنا وإن تحملنا كلفتها الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية أمنا غذائيا مهددا وارتفاعا فى أسعار الطاقة وتضخما وتراجعا للنمو ونكوصا غربيا عن تعهدات التعامل العادل مع التغير المناخى وأضراره، لسان حال الجنوب العالمى هو أن هذه ليست حربنا وإن كنا نرفض تركيع روسيا ونرفض الهيمنة المنفردة للولايات المتحدة ونبحث عن الاقتراب من قوى صاعدة كالصين والهند والبرازيل بعد خروجها من عثرة اليمين المتطرف مثلما لم تعد شعوبنا قادرة على تحمل لا التداعيات الكارثية لانسحاق الأوروبيين للإرادة الأمريكية ولا معايير الغرب المزدوجة التى ترى العدوان عدوانا هناك والاحتلال ليس باحتلال هنا بين ظهرانينا.
مر عام كامل على اقتراب عالمنا المعاصر بخطوات سريعة من تقلبات وتناقضات وأزمات عالم ما بين نهاية الحرب العالمية الأولى ١٩١٨ وبداية الحرب العالمية الثانية ١٩٣٩ التى غيرت جذريا الثلثين التاليين من القرن العشرين وتناولتها فى هذه المساحة بالتحليل خلال الأسابيع الماضية. وأغلب الظن أن الاستمرار المتوقع للصراع على أوكرانيا وللحرب الدائرة على أراضيها بين روسيا والغرب سيرتب أيضا تغيرا جذريا لحقائق العقود القادمة من القرن الحادى والعشرين وتحدياتها الكبرى.
عمرو حمزاوي أستاذ علوم سياسية، وباحث بجامعة ستانفورد. درس العلوم السياسية والدراسات التنموية في القاهرة، لاهاي، وبرلين، وحصل على درجة الدكتوراة في فلسفة العلوم السياسية من جامعة برلين في ألمانيا. بين عامي 2005 و2009 عمل كباحث أول لسياسات الشرق الأوسط في وقفية كارنيجي للسلام الدولي (واشنطن، الولايات المتحدة الأمريكية)، وشغل بين عامي 2009 و2010 منصب مدير الأبحاث في مركز الشرق الأوسط لوقفية كارنيجي ببيروت، لبنان. انضم إلى قسم السياسة العامة والإدارة في الجامعة الأميركية بالقاهرة في عام 2011 كأستاذ مساعد للسياسة العامة حيث ما زال يعمل إلى اليوم، كما أنه يعمل أيضا كأستاذ مساعد للعلوم السياسية في قسم العلوم السياسية، جامعة القاهرة. يكتب صحفيا وأكاديميا عن قضايا الديمقراطية في مصر والعالم العربي، ومن بينها ثنائيات الحرية-القمع ووضعية الحركات السياسية والمجتمع المدني وسياسات وتوجهات نظم الحكم.
التعليقات