البابا فرانسيس فى العراق: رسائل هامة - وليد محمود عبد الناصر - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 6:20 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

البابا فرانسيس فى العراق: رسائل هامة

نشر فى : الخميس 25 مارس 2021 - 8:15 م | آخر تحديث : الجمعة 26 مارس 2021 - 10:59 ص
أتت زيارة البابا فرانسيس بابا الفاتيكان وأعلى سلطة روحية لمئات الملايين من الكاثوليك عبر العالم إلى العراق لتكون زيارة متميزة ومختلفة عن زيارات كثيرة قام بها الحبر الأعظم عبر بلدان وقارات وأقاليم العالم المختلفة، وبناءً على ذلك يكون لها دلالات ذات نوعية خاصة بها، ويأتى ذلك ليس لمجرد أنها أول زيارة لبابا الفاتيكان إلى العراق، وهو حدث هام فى حد ذاته، وليس فقط لأنها أول زيارة خارجية للبابا منذ شهور طويلة بسبب استفحال وباء كورونا المستجد عبر العالم، ولكن لأكثر من سبب آخر برز على خلفية تلك الزيارة التاريخية الهامة.
وأول تلك الأسباب هو المكانة الخاصة للعراق فى تاريخ المسيحية فى المشرق العربى على مدار القرون السالفة، بل وظهور العديد من المذاهب والطوائف المسيحية على أرض العراق، مكان ميلاد النبى إبراهيم أبو الأديان الثلاثة المعروفة بالإبراهيمية فى الأدبيات الغربية: اليهودية والمسيحية والإسلام، بالإضافة إلى ثراء وتنوع العطاء التاريخى لمسيحيى العراق فى سياق التطور الثيولوجى للمسيحية على الصعيدين العالمى والإقليمى طوال تلك القرون. ويكفى الحديث عن تاريخ طويل للمسيحيين العرب الآشوريين فى بلاد ما بين النهرين وإسهاماتهم الحضارية للبشرية جمعاء على مدار أزمنة متتالية. ولذا تعتبر زيارة البابا فرانسيس للعراق هى بمثابة إقرار بابوى، وإن جاء متأخرا زمنيا بعض الشيء، بالدور المحورى للعراق وشعبه ومسيحييه فى تطور الإنسانية جمعاء حضاريا، وتطور وتنوع وثراء المسيحية ذاتها على سبيل الخصوص عقائديا.
ويرتبط السبب الثانى بسابقه بشكل عضوى، حيث إن مسيحيى العراق تعرضوا على مدار عقود، ولعوامل متباينة، ما بين عوامل طرد من الداخل وعوامل جذب من الخارج، لتطورات متلاحقة أدت إلى خروج أعداد كبيرة منهم من بلادهم، طوعا أو تحت ضغوط متعددة ومن أطراف لكل منها «أجندة» وأهداف خاصة بها، وليست بالضرورة فى إطار تنسيق أو تعاون أو مصالح مشتركة فيما بين تلك الأطراف. وأدت تلك الأوضاع إلى تبلور بيئة مواتية لصدور نداءات متعالية الأصوات على مدار السنوات القليلة الماضية، ومن مصادر متنوعة، تحذر من مخاطر تعرض مسيحيى العراق فى وقت قريب إلى الفناء فى أرض اجدادهم التاريخية: بلاد ما بين النهرين. وبالرغم من اتهام البعض لتلك النداءات بالمبالغة أو بتعمد إثارة الخوف لدى مسيحيى العراق، فإن التطورات التاريخية على مدار العقود الخمسة الماضية تصب أحيانا فى خانة بناء بعض الأرضية لإيجاد قدر من المصداقية لأصحاب تلك النداءات. فبالرغم من أن النظام البعثى للرئيس العراقى الراحل صدام حسين اعتمد على شخصيات مسيحية فى عدة وظائف رئيسية فى الدولة، كان منهم على سبيل المثال وزير الخارجية لسنوات طويلة السيد طارق عزيز حنا وغيره، فإن تبنى نظام صدام حسين لشعارات إسلامية، سواء خلال مواجهته لإيران فى حرب الثمانى سنوات، بغرض إظهار طابع المواجهة السنية الشيعية لتلك الحرب لحشد دعم وتأييد العالم الإسلامى السنى بجانبه، أو فى مواجهة التحالف الدولى والعربى بعد الاستيلاء على الكويت عام 1990، شكل عامل تخويف وعنصر طرد لقطاعات من مسيحيى العراق، خاصة أن ذلك جاء متزامنا مع تصعيد العقوبات الدولية على العراق آنذاك وما أفضت إليه من تدهور فى مستويات المعيشة داخل المجتمع العراقى وتناقص حاد فى معدلات توافر الغذاء والدواء، وهو الأمر الذى دفع آلاف الأسر المسيحية فى العراق لمغادرته، خاصة فى ظل تلويح العديد من البلدان الغربية فى ذلك الوقت، عبر منظمات غير حكومية وجمعيات إغاثة إنسانية وكنائس محلية وغيرها، بالترحيب باستقبال مسيحيى العراق على وجه الخصوص. ومن ثم فزيارة الحبر الأعظم للعراق هى تأكيد على اهتمام الفاتيكان بمسيحيى العراق واعتبارهم، داخل بلدهم، مكونا هاما وأساسيا من مكونات الشعب والثقافة والحضارة فى العراق وفى المنطقة ككل.
أما ثالث الأسباب لأهمية زيارة البابا فرانسيس للفاتيكان فهو أن العراق شكل لعقود طويلة أحد المجتمعات التى يتعايش فيها بشر ينتمون إلى أديان وعقائد متنوعة ومتباينة، وشكل هذا التعايش تحديا للتعامل معه على امتداد الحقب المتتالية التى شهدها التاريخ الحديث والمعاصر للعراق، وذلك من جهة تعدد محاولات التوصل إلى الصيغة المثلى للتعامل معه وجعله مصدر إثراء وقوة وليس مصدر تباغض داخلى أو تنافر أو ضعف، وحدث ذلك ما بين حكم شبه ليبرالى ملكى ثم حكم ثورى بأطيافه العسكرية والشبه ماركسية والشبه ناصرية والبعثية، ثم الصيغ التى تتالت على حكم العراق بعد الغزو الأمريكى له فى العام 2003 وسقوط النظام البعثى للرئيس الراحل صدام حسين، ومن ثم فالعراق حالة جديرة بالاهتمام، بل بالأولوية، من جانب البابا فرانسيس الذى يعتبره كثيرون داخل العالم الكاثوليكى وخارجه الأكثر تقدما فى منظومته الفكرية، والأكثر انفتاحا على الآخر ضمن من تولوا هذا المنصب الروحى البارز على مدار أكثر من نصف قرن من الزمان.
ورابع الأسباب يتصل بأن العراق شهد أحد أهم المواجهات الدولية والإقليمية ضد تنظيم «داعش» الذى نشأ وكان مقر قيادته فى العراق، وهو التنظيم الذى أثار بأيديولوجيته وممارساته ذعرا لغير المسلمين فى العراق وبلاد الشام، بما فى ذلك بالطبع المسيحيين، وهى مواجهة وإن كانت لم تنته بعد، فإنها شهدت تحولا فى الدفة، العسكرية على الأقل، خلال الفترة الماضية فى غير صالح ذلك التنظيم، ولكن دون حسم واضح أو نصر قاطع ضده حتى الآن، حيث إنه لا يزال ينبض بالحياة كما يظهر من ضربات عسكرية له من وقت إلى آخر من جهة، كما أن الظروف التى كانت مواتية لولادته وتعزيز قوته فى السابق، من جهة أخرى، ما زال البعض منها على الأقل قائما فى المنطقة ككل مما قد يهدد بتجدد توفير بيئة مواتية لنمو التنظيم مجددا أو نمو تنظيم آخر مشابه له أو حتى أكثر تشددا منه فى القادم من الأيام. ولذا فإن زيارة البابا للعراق هى رسالة طمأنة وتضامن: طمأنة لمسيحيى العراق والشرق عموما بأن بابا الفاتيكان قرر أن تكون أولى زياراته الخارجية بعد فترة ابتعاد بسبب الانتشار العالمى لفيروس كورونا المستجد هى للعراق، وتضامن مع تلك القوى الفاعلة داخل المجتمع العراقى وبقية مجتمعات المنطقة التى تناضل ضد الطائفية والتمحور حول الذات والاحتماء به فى مواجهة الآخر المختلف دينيا وعقائديا ومذهبيا.
وهكذا جاءت زيارة بابا الفاتيكان البابا فرانسيس للعراق لتمثل رسالة تهدئة وطمأنة ودعوة تعايش على المدى القصير والمتوسط، ولتشكل خطوة تاريخية وغير مسبوقة وباقية فى وجدان الزمان من جانب الفاتيكان للإقرار بأهمية العراق فى تاريخ الحضارة الإنسانية وفى تاريخ تطور العقيدة المسيحية، ولتحمل اهتماما متواصلا من الحبر الأعظم بالتواصل مع العواصم الرئيسية فى العالم الإسلامى على خلفية إحيائه لحوار الأديان الذى كان قد انقطع من قبل مجيئه إلى موقعه الحالى، ولتعكس حرصا على إبراز الرفض الدينى المسيحى للإرهاب، مع ربط الأخير بحالة تصاعد التفسيرات اليمينية المتشددة للأديان، يستوى فى ذلك الإسلام والمسيحية واليهودية، وحتى الأديان الأخرى غير الإبراهيمية، على الصعيد العالمى على حد سواء.
وليد محمود عبد الناصر مفكر وكاتب مصرى
التعليقات