أسطورة الباحث المثالى - محمد زهران - بوابة الشروق
الجمعة 25 أبريل 2025 10:45 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

أسطورة الباحث المثالى

نشر فى : الجمعة 25 أبريل 2025 - 7:15 م | آخر تحديث : الجمعة 25 أبريل 2025 - 7:15 م

 

فى العاشر من ديسمبر من كل عام يقف الفائزون بجوائز نوبل على منصة التتويج فى ستوكهولم، وفى الغالب يحلم كل باحث بالوقوف على منصة التتويج هذه ونيل الجائزة التى تفتح أبواب الشهرة والمال، وهناك جوائز مشابهة فى التخصصات المختلفة. هل الفائزون بتلك الجوائز هم النموذج المثالى للباحث؟ لمحاولة الإجابة على تلك الأسئلة يجب أن نضع فى الاعتبار أن الباحث هو فى النهاية إنسان. الإنسان السوى عليه الاهتمام بعدة نواحٍ فى حياته. هل تريد أن تصبح من أفضل اللاعبين فى الشطرنج مثلاً ثم تجن وتفقد عقلك بعدها (لاعب الشطرنج الأمريكى بوبى فيشر نموذجًا)؟ هذا المقال قد لا يعطى إجابة نهائية لكنه يشرح الموقف كما هو فى العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين.

الباحث العلمى يعمل إما فى الجامعة كأستاذ أو كباحث فى معمل أبحاث مستقل أو حكومى أو تابع لشركة. النظرة المثالية هى أن العالم يجلس طوال الوقت فى معمله ليقوم بالتجارب وفى قراءة الأبحاث العلمية وحضور المؤتمرات وفقط. هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة.. كما سنرى.

•  •  •

أول شىء طبعا هو عملية البحث العلمى ذاته. البحث العلمى يبدأ بسؤال محدد ودقيق، ثم باتباع طريقة علمية فى التفكير والتجريب ثم التحليل يصل لإجابة أو لحل قد يثبت أو لا يثبت أمام اختبار الزمن. تبعًا لهذا التعريف البسيط يمكن تقسيم البحث العلمى لثلاثة أنواع، هذا ليس تقسيمًا رسميًا لكنه نبع من مناقشة كاتب هذه السطور مع أحد أساطين الباحثين فى تخصص تصميم الحاسبات منذ عقدين تقريبًا:

   •  أبحاث الخطوة الصفرية: وهو أن السؤال البحثى محدد وهناك الكثير من الباحثين قد قدموا حلولاً له. إذا الباحث الذى يختار هذه النوع يجب عليه الإلمام بالحلول السابقة والتحرك سريعًا حتى يسبقهم لأنه فى الغالب هناك الكثير من الباحثين يعملون على تقديم حلول أيضًا. نجد هذا النوع كثيرًا فى معامل الأبحاث الملحقة بالشركات الكبرى التى تتنافس فيما بينها، كما نرى الآن فى التنافس فى مجال برمجيات الذكاء الاصطناعى للمحادث.

   •  أبحاث الخطوة الأولى: وهو أن السؤال البحثى محدد لكنه جديد نوعًا ما فعدد الحلول المقدمة ليس كبيرًا وبالتالى هناك منافسة أقل.

   •  أبحاث الخطوة العاشرة: وهو أن يقدم الباحث سؤالاً جديدًا ويقدم له إجابة أو حلاً.

للأسف النوع الثالث وهو الذى يساعد على تجديد دماء البحث العلمى هو أقل الأنواع حصولًا على التمويل، لأن النتائج قد لا تكون مضمونة. وحيث إننا فى عصر يتحكم فيه رأس المال، فالباحث ليس له حرية تامة فى اختيار المشروع البحثى الذى يعمل فيه. هذا يقودنا لحديث عن التمويل.

•  •  •

البحث العلمى يحتاج إلى أجهزة وبعض التفرغ وتعيين مساعدين والسفر للمؤتمرات والنشر فى المجلات العلمية (الذى لم يعد مجانًا)، كل ذلك لا يستطيع الباحث أن يتحمله، لذلك عليه أن يقضى وقتًا فى كتابة طلبات للتمويل (proposals) وعرضها على الشركات والهيئات. هذا يستغرق وقتًا وجهدًا. البراعة فى اختيار السؤال البحثى وعرضه فى طلب التمويل ليس كافيًا للحصول على التمويل. 

•  •  •

شئنا أم أبينا نحن فى عصر شبكة المعارف والتسويق حتى فى مجال الأبحاث العلمية، على القارئ الكريم مراجعة مقالنا «شبكة المعارف فى الحياة الأكاديمية» بتاريخ 18 ديسمبر 2016. البعض يرى أن من يعمل بالبحث العلمى يجب أن ينأى بنفسه عن أن ينساق وراء حملات التسويق والترويج… إلخ. هذا صحيح طبعًا وما يجب أن يكون عليه العالم فى حالته الصحية، لكننا فى عصر رأسمالى قاسٍ يتحكم فيه رأس المال فى كل شىء تقريبًا ومنها تمويل البحث العلمى، ورأس المال يأتى ليس فقط بسبب براعة الباحث وأهمية بحثه لكن أيضًا عن طريق شبكة اتصالاته.

أود لفت نظر القارئ الكريم إلى كتاب نُشر عام 2011 بعنوان:

 (Marketing for Scientists: How to Shine in Tough Times) أو «التسويق للعلماء: كيف تلمع فى وقت صعب» من تأليف (Marc J. Kuchner) وهو باحث فى وكالة ناسا له العديد من الأبحاث فى مجال فيزياء الفلك (astrophysics). يثير الكاتب عدة نقاط مهمة فى كتابه:

   •  لن يستطيع الباحث التقدم فى مجاله إلا إذا تعلم وطبق بعض وسائل خبراء التسويق، بهذا يستطيع الحصول على تمويل لأبحاثه ويستطيع الترويج لها بعد نشرها.

   •  عصر العالم الذى يجلس وحيدا يفكر ويبتكر ولّى، الآن العالم يحتاج التسويق لنفسه ولأبحاثه. من أجل ذلك يجب أن يفهم «زبونه» جيدًا وما يحتاجه حتى يسوق «منتجه» بأفضل وسيلة ممكنة. هذا المنتج هو الأفكار والأبحاث والخبرة العلمية. الزبون طبعًا تتمثل فى الشركات ومؤسسات التمويل والباحثين وحتى الجمهور العام.

   •  كباحث يجب أن يكون لك ما يشبه «العلامة التجارية»، أى ما يميزك عن الآخرين.

كما نرى فإن كل تلك المهارات تستنفذ وقتًا لتعلمها ثم تطبيقها بشكل مستمر، هذا الوقت هو ما كان العلماء فى الزمان الماضية يقضونه فى القراءة والتفكير والبحث العلمى.

إذا كان العالم يعمل فى جامعة وليس فى مركز بحثى مستقل أو تابع لحكومة أو شركة فإن هناك عاملاً يحتاج إلى جزء من وقته ومجهوده وتفكيره.

•  •  •

التدريس كما تحدثنا فى مقالات عديدة سابقة ليس مجرد قراءة بضع صفحات ثم سردها على الطلبة، فالمدرس ليس جهازًا للتسجيل أو ببغاء. التدريس الفعال يستلزم عدة مهارات ومهام:

   •  متابعة التقدم العلمى فى التخصص الذى يقوم الأستاذ بتدريسه، وربط ذلك بالحياة التى يعيشها الطلاب. هذا أسلوب فعال لجعل الطالب يتفاعل مع المادة العلمية ولا يجدها مجرد معلومات جافة.

   •  التدريب على أساليب إدارة قاعة المحاضرات وما قد يحدث فيها من مشكلات خاصة لو كان العدد كبيرًا.

   •  التعامل مع مشاكل الطلاب الدراسية والمشكلات التى تعوق تعلمهم. هذا مزيج من علم النفس وعلم الاجتماع ويحتاج مساعدة كبيرة من خبراء التربية.

   •  تحديث المنهج والمشاريع باستمرار.

   •  استخدام الوسائل الحديثة فى تقييم الطلاب خاصة فى عصر الذكاء الاصطناعى والذى يستخدمه الكلاب سواء شئنا أم أبينا.

•  •  •

كل ما تحدثنا عنه يتسابق على التهام وقت ومجهود الباحث أو الأستاذ الجامعى. عدد ساعات اليوم ثابتة، ومجهود الباحث وقدرته على التركيز أيضًا له حدود. يجب ألا نغفل أن الباحث له أيضًا حياة شخصية وأسرة. هل ترغب أن تكون أستاذًا نابغًا تتنافس عليك القنوات الفضائية والمجلات وتحصل على جوائز عديدة وتكون فاشلاً فى الحياة الخاصة بأسرة مفككة؟

كل الصفات التى تكلمنا عنها فى هذا المقال هى مهارات يمكن التدريب عليها وتنميتها:

   •  تدريب الأكاديمى على أصول وقواعد التدريس وما يشتمل عليه من علم نفس التربية، والتعامل مع الشخصيات المختلفة للطلبة، ووسائل وضع الامتحانات… إلخ. هناك فى الجامعات الحكومية ما يعرف بدورات إعداد المعلم. هى خطوة مهمة لكن من المفيد تعميمها على كل الجامعات الحكومية منها وغير الحكومية، بل وحتى على أى شخص يرغب فى تعلم تلك المهارة حتى يستخدمها فى إعطاء دورات تدريبية فى مكان عمله أو ورشات عمل وما شابه.

   •  الكتابة العلمية مهارة تحتاج معرفة بعض القواعد ثم التدريب المستمر. هناك مراكز تساعد فى تنقيح وتصحيح الأبحاث، لكن ليس هناك عدد مماثل من المراكز يوفر تدريباً كافياً ومتقدماً فى أصول الكتابة العلمية، نحتاج ذلك لكل من يعمل أو يريد أن يعمل فى البحث العلمى.

   •  الطريقة العلمية (scientific method) والتفكير النقدى (critical thinking) مهارتان لا غنى عنهما لكل من يعمل بالبحث العلمي. هلا أكثرنا من ورش العمل التى تقوم بالتدريب على تلك المهارات؟ هل يحرص الأساتذة على تدريب طلابهم على تلك المهارات؟ أم تكتفى الجامعات بمادة واحدة مبسطة؟

   •  لا نستطيع إنكار أننا فى عصر العلاقات العامة والتسويق، حتى الباحثين يحتاجون تلك المهارة، فهلا أقمنا تدريبات على تلك المهارات موجهة للباحثين؟

ما هى المعادلة الصحيحة للباحث المثالى فى ضوء ما تكلمنا عنه؟ مازال الموضوع على طاولة النقاش.

محمد زهران عضو هيئة التدريس بجامعة نيويورك فى تخصص هندسة وعلوم الحاسبات، حاصل على الدكتوراه فى نفس التخصص من جامعة ميريلاند الأمريكية، له العديد من الأبحاث العلمية المنشورة فى الدوريات والمؤتمرات الدولية، بالإضافة إلى الأبحاث والتدريس.. له اهتمامات عديدة بتاريخ وفلسفة العلوم ويرى أنها من دعائم البحث العلمى، يستمتع جداً بوجوده وسط طلابه فى قاعات المحاضرات ومعامل الأبحاث والمؤتمرات، أمله أن يرى الثقافة والمعرفة من أساسيات الحياة فى مصر.
التعليقات