كرتونة ولوازمها - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 2:32 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كرتونة ولوازمها

نشر فى : الجمعة 26 مارس 2021 - 9:55 م | آخر تحديث : الجمعة 26 مارس 2021 - 9:55 م
بعد أقلّ من شهرٍ واحد يحلُّ رمضان، يشبه سابقَه ولا يشبهان معًا ما نشأنا عليه واعتدناه؛ فعواملٌ قد جدَّت، ومؤثراتٌ قد استُحدِثَت، والنتيجةُ قد انعكست على مفرداتِ الحياةِ كلها تقريبًا.
***
ثمَّة عاداتٌ متنوعةٌ صارت في عرف المُحرَّمات؛ لا ولائم عامرة يلتفُّ حولَها عشراتُ الكبار والصغار مِن عائلةٍ واحدةٍ مُمتدَّة، لا صلوات تراويح تقصدها جماعاتٌ غفيرةٌ ويلوذ بها مَن في العادةِ يتلهون عن الفروضِ اليوميةِ، لا صخب في الشوارعِ أو على المقاهي الساهرةِ إلى حدود مُقننة، والتي غاب عنها عاملُ الجذْبِ الرئيس: الشيشة. التواصلُ المُباشر بين جُموع الناسِ التي يؤلف بينها عسر الأحوالِ لم يعد مُتاحًا، والفضفضة بالكلام صارت محدودةَ النطاق؛ بما لا يؤتي الغرضَ منها ولا يستوفي المَقصِد.
***
عروضُ المُسلسلات التي درَجنا على استقبالها بوفرةٍ، وتقييمِ اللقطاتِ المتفرقة التي نلمحها منها، ثم تخمين أيها أجدر بالمُتابعةِ؛ ليست بكثافة السنوات الماضية، تأتي العناوين على استحياءٍ وتمُر مُرور الكرامِ، وكأنها تُشارك في مَوكِب الركود. الإعلاناتُ التي بدت في قمةِ عنفوانِها هي تلك التي تطلبُ مِن المُشاهدين التبرع، تحثّهم وترهِبهم وتبتز مشاعرَهم، ولا تعدم في استجلابِ مُرادها وسيلة.
***
لا يقترب رمضانٌ إلا وعاودت ذاكرتي حلقاتُ الفوازير، واللهفة التي انتظرت بها وأصدقائي فطوطة وآلة الزمن؛ لكن تلك أيام ولَّت وانقضَت، لم تعد للفوازيرِ سوقٌ رائجةٌ، فالحياة قد صارت ملآى بالفوازيرِ الطبيعيةِ التي لا يُطلَب مِن أحدٍ حلُّها؛ لا تُرصَد لها الجوائز ولا تُعلَن في نهايتِها أسماءُ الفائزين.
***
كرتونة رَمَضان أخلفت هي الأخرى عهدَها؛ فمتوسط القِيمةِ منها لم يعد يحوي أكياسَ التمر والزبيب، ولا يضمُّ بين جنباته لفائفَ قمر الدين أو عبواتِ السوداني أو المشمشية، كما لا يشتملُ بالقطع على أي نوعٍ من أنواعِ المكسرات؛ فتلك هي أول مَن غادر الكرتونة إلى غير رجعة وبات مِن المُحرَّمات الكُبرى، ولا عجب في أن تتجاوز أسعارُها أسعارَ اللحومِ بأنواعها؛ إذ هي صنفٌ عزيز لا يُمكن العبثُ معه أو به، إما حضور بهيّ أو غيابٌ تام.
***
سألت البائعَ عن مُكوّنات الكرتونة التي يعرِضها المَحَلُّ الشهير؛ فأجاب بفخر: ثلاثة عشر صنفًا؛ زيت وسمن نباتيّ، وفول وشاي وسكر، وملح وأرز، وعلبة طماطم مَحفوظة لزوم عَمَل الصلصة، ثم مكرونة. عددتها وراءه فوجدتها تسعةَ أصنافٍ فقط، نبَّهته فأوضح لي: مكرونة ومكرونة ومكرونة ومكرونة. تطلَّعت إلى المُحتويات المَرصوصة؛ فأدركت مِن العلامةِ التجاريةِ التي حملتها المكرونة سرَّ فرضِها بكميةٍ كبيرةٍ وغير مُعتادة.
***
يثير حديثُ الكرتونة سحاباتٍ مِن الشُجون؛ أعرف مَن كانوا في سعةٍ من العَيش، يتمكَّنون مِن توزيع الكراتين الزاخرةِ بكُل ما لذَّ وطاب، فصاروا في ضيقٍ يكتفون بتوفير المُكوناتِ الأساسية. أعرف أيضًا مَن سيقصرون عطاءَهم هذا العام على مَبالغَ ماليةٍ مَحدودة، يرونها أنفع وأجدى؛ فالأولوياتُ نسبيةٌ واحتياجاتُ كل فردٍ وتفضيلاته في مَوقفِ الشظف؛ تختلف ظنًا عن الآخرين. أعرف على الجانبِ المُقابل مَن ساعدتهم الظروف المُتقلبة وأغدقت عليهم بما يفي ويفيض؛ لكن إحلالَ الأدوار وإبدالَها يبقى محلَّ سؤال.
***
يتزامَن رمضان هذا العام مع شمّ النسيم؛ فيما يتعذر الجَمع بين صَومٍ يجفُّ فيه الجسمُ وتظمأ خلاياه، وبين تناول الأسماكِ المُملَّحة التي تتطلَّب مِن المياه أنهارًا. رغم هذا؛ فإن صديقاتٍ وأصدقاءَ يعتزمون منذ الآن أن يضمنوا وجبةَ الإفطارِ في عيد الربيع، أصنافَ الرنجة والملوحة والفسيخ؛ فتحمُّل العطشِ وارد، أما تركُ العادةِ الراسخةِ على مدار العمر؛ فأمر عسير، بل يعده الكثيرون فألًا سيئًا. يقول بعضُ الناس حين يُثمنون صنيعًا كريمًا: "ربنا ما يقطع لك عادة"، وقد اقتنصنا هذه العبارة وأدمجناها في سياقاتٍ مُتباينة، وجعلنا لها مكانةً جليلة؛ فالعادة- أيًا كانت طبيعتها- مُهمةٌ، وحفظها مِن الاندثارِ واجب.
***
يأتي رَمَضان هذا العام والحالُ غير الحال؛ مع هذا تبقى الزينةُ التي لا تزال تقاوم الاستغناءَ. الشوارع الضيقة، والحارات الصغيرة التي لم تُصِبها بعد حمَّى التوسيع؛ تتجملُّ بأوراقٍ ملونةٍ وبفوانيس مُعلقة في المُنتصف ما بين صفوفِ البناياتِ القديمة، وبأضواءٍ تتلألأ في الليل لتؤكدَ مظاهرَ الاحتفاءِ والاحتفال. بغَضّ النظر عن علاماتِ البؤسِ الباديةِ في الوجوه؛ ما انفك بشرٌ يقاومون.
بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات