منذ سنوات بعيدة كنت أسير بالسيارة فى شارع الظاهر عندما شاهدت على الرصيف القريب شابا يسيل الدم من رأسه ويغرق وجهه وملابسه.
كان يسير خطوات ثم يسقط على الأرض، ينهض محاولا السير ثم لا يلبث أن يسقط من جديد.
توقفت بالسيارة إلى جانب الطريق وبدون تفكير نزلت مسرعا واتجهت للفتى الذى ارتمى على الأرض ثم راح فى غيبوبة وما زال الدم ينزف من رأسه.
تبعنى رجل أشيب كان يجلس يحتسى الشاى خارج دكانه ووقف إلى جوارى ناظرا فى حيرة إلى الشاب الجريح.
سألته: هل صدمته سيارة؟. أجاب: لا أعرف.. كنت أجلس فشاهدته يتخبط على الرصيف ثم يسقط أمامى ولم أعرف من فعل به هذا.
أخرجت تليفونى لأطلب الإسعاف فبادرنى الرجل الأشيب: لو اعتمدنا على الإسعاف فكأننا نبرئ ذمتنا أمام أنفسنا دون أن ننقذ الولد الذى قد ينزف حتى الموت.
كان الناس قد تجمعوا والتفوا حول المصاب الغائب عن الوعى يتطلعون إليه بأعين مليئة بالفضول. قلت للرجل عندك حق، لكن ما العمل؟ قال: خذه فورا بسيارتك إلى المستشفى القبطى حتى يوقفوا النزيف وينقذوا حياته.
نظرت إليه مترددا لأننى أعرف حجم مسئولية نقل جريح وما قد تجره الشهامة على صاحبها، لكن سرعان ما تراجع ترددى وأنا أتخيل نفسى أو أحد أحبائى مكان المصاب المسكين.
ساعدنى الرجل ومعه بعض المارة على حمل الجريح ووضعوه فى سيارتى على المقعد الخلفى.
طلبت من الرجل أن يأتى معى للمستشفى ليكون شاهدا على ما حدث وحتى لا يظنوا أن لى دخلا بما أصابه، لكنه تعلل بأنه ينتظر بضاعة ستصله بين لحظة وأخرى وطمأننى باستعداده للشهادة معى إذا احتجتها.
حاولت أن آخذ معى أحدا من الجمع الذى أحاط بنا للفرجة على ما يحدث، لكنهم اعتذروا منسحبين فى نذالة جماعية مذهلة.
زاد توترى وأحسست أننى تهورت بوضع المصاب فى سيارتى، لكن قلقى على حياته حسم التردد وجعلنى أنطلق بسرعة متضرعًا إلى الله بأن ينجى الفتى ويخرجنى من الموقف سالمًا.
على بوابة المستشفى واجهتنى مشكلة لأنهم رفضوا إدخالى بالسيارة، لكنى تصرفت بالطريقة المصرية المعتادة ودخلت!.
عند قسم الاستقبال والطوارئ وجدت أن مهمتى انتهت فأعطيت القوم ظهرى ومشيت بالخطوة السريعة نحو الباب، لكن موظف الأمن هرول فى اتجاهى مناديًا ثم فوجئت به يصيح بأعلى صوته وهو يشير نحوى: امسكوه.. امسكوه قبل أن يهرب!
أحاط بى القوم فشرحت لهم بهدوء علاقتى بالموضوع لكنهم أصموا آذانهم وتم إبلاغ مدير المستشفى تليفونيا ثم أخبرونى أن الشرطة فى الطريق.
كررت على أمين الشرطة ما حدث ونفيت معرفتى بالمصاب. كان الأمين متفاهما، بيد أنه شرح لى أن هناك إجراءات فى مثل هذه الحالات لا يمكن تجاوزها، وطلب منى أن أدعو الله ألا يموت الفتى حتى يمكنه أن يشهد لصالحى ويؤكد أننى لست الفاعل.
مادت الدنيا بى لأننى فكرت لحظتها أن الشاب قد تكون صدمته سيارة لم ير قائدها فلا يستطيع أن يؤكد أو ينفى شخصية الفاعل، ولا يبقى أمامهم حينئذ إلا المغفل الذى حمل جريحا ينزف وذهب به للمستشفى!. وهنا تذكرت صاحب المحل الذى شهد الواقعة معى وهو جالس على الكرسى أمام محله فطلبت من الشرطى أن يأتى معى لسؤاله وأخذ أقواله فى محضر رسمى حتى تتأكد براءتى وأستطيع أن أنصرف إلى حال سبيلى.
وافق الرجل فاستبشرت خيرا وبدأت الطمأنينة تعود إلى نفسى. ركبنا السيارة ودعوت الله أن يكون الرجل موجودا وألا يكون غادر المحل لأى سبب.. ومن بعيد لمحته جالسا نفس جلسته الأثيرة وما زال يحتسى الشاى خارج الدكان.
توقفت بالسيارة ونزلت ومعى أمين الشرطة وتوجهنا نحوه، ولا أدرى لماذا لمحت الاضطراب فى ملامحه عندما شاهدنى ومعى رجل البوليس.
بادرته فى لهفة: بالله عليك يا حاج قل للأمين ما حدث لأنه يريد معرفة حقيقة أمر الفتى المصاب.
قال الرجل متصنعًا الدهشة: أى فتى وأى إصابة؟ قلت وأنا لا أصدق: الشاب الذى ترنح وسقط أمامك هنا ودماؤه لا تزال آثارها على الأرض.. الشاب الذى تعاونت معى لأنقله بسيارتى للمستشفى
. رد فى خسة متناهية: لا أعرف عما تتحدث.. ربما تقصد شخصا آخر!.
طافت بخيالى لحظتها أسئلة كثيرة عن البشر والكون وجدوى الحياة وحكمة ربنا فى وجود بشر من هذا النوع، ثم وجدت نفسى مستسلما لقدرى أقول للشرطى: هيا بنا للمستشفى فلعل الفتى يكون قد مات لتكتمل الدراما الإغريقية التى أواجهها. كنت أقود نحو المستشفى وأنا فى حالة وجوم بينما أمين الشرطة يؤكد لى أنه يصدقنى ويعرف أن الرجل يكذب، لكنه لا يدرى ماذا يفعل.
داخل المستشفى استقبلنا الأطباء بابتسامة وأخبرونا أنهم عرفوا الموضوع من الشاب حين استفاق وحكى لهم أنه مصاب بالصرع وأن النوبات تداهمه بشكل مفاجئ فيسقط على الأرض سقطات عنيفة تعرضه للإصابة.
أضافوا أيضا أنهم أسعفوا جروح رأسه ووجهه واتصلوا بأهله الذين حضروا وتسلموه.
عندما عدت للشاهد الوغد كان كل ما أريده هو أن أفهم لماذا فعل ما فعل مع علمه أن مستقبلى كان من الممكن أن يضيع بسبب نذالته.
قال الرجل فى بلادة: عندما رأيت الشرطى معك ارتعبت وزاد يقينى بما أؤمن به فعلا وهو أن من يفعل الخير فى هذا البلد لا يلقى إلا سوء العاقبة، فاتخذت قرارى بألا أفعل الخير لأضمن النجاة وليذهب العالم كله للجحيم!