ما بعد صدمة العزوف - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 5:57 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ما بعد صدمة العزوف

نشر فى : الإثنين 26 أكتوبر 2015 - 3:30 ص | آخر تحديث : الإثنين 26 أكتوبر 2015 - 3:30 ص

بدت لجان الانتخابات النيابية أشبه بشواهد القبور فى اليوم الأول من جولتها الأولى.
رغم ارتفاع أرقام المشاركين باليوم التالى إلا أن النسبة العامة النهائية نحو نصف الذين شاركوا فى أى استحقاق أمام صناديق الاقتراع بعد ثورة «يناير».
كانت تلك رسالة احتجاج صامتة تطلب تغييرا عاجلا يوسع المجال العام وينتصر للعدل الاجتماعى.
فى طلب التغيير احتجاج على عودة الماضى بوجوهه وسياساته، كأن شيئا لم يتغير فى مصر بعد ثورتين.
غير أن ذلك لا يصح أن يؤسس ليأس عام من أى تغيير وإحباط من أى تقدم.
اليأس قراءة متعجلة للصراع على المستقبل المصرى.
شىء جوهرى قد تغير فى بنية المجتمع يجعل من أى رهان على عودة الماضى تجديفا ضد التاريخ.
الثورة الفرنسية شهدت تجربة مماثلة.
العصر يختلف والبلد يختلف، غير أن الدرس لا يمكن تجاهله.
بعد انكسار زخم الثورة الفرنسية أطل الماضى بقوة فى أول انتخابات برلمانية، وتسيد الملكيون نتائجها فى أغلب المناطق الريفية.
التوغل فى قطع الرقاب من على المقاصل لم يمنع هذه العودة، لكنها كانت مؤقتة.
وسط الفوضى الضاربة تراجعت الفكرة الجمهورية، وأعلن «نابليون بونابرت» نفسه إمبراطورا، استنادا إلى شعبية هائلة اكتسبها من انتصاراته العسكرية.
غير أنه بعد وقت طويل ومعاناة بالغة استقرت قيم الثورة الفرنسية فى دستور ينتسب إليها.
الشرعية الدستورية تحكم الآن كل شىء فى فرنسا، رغم الخلافات التى مازالت ماثلة فى المساجلات العامة بشأن الثورة وأحداثها الدموية.
الثورات مشروعات تغيير، أفكار تلهم وتضحيات تبذل.
لا الأفكار تتبدد ولا التضحيات تنسى فى أى تجربة عميقة.
اليأس هزيمة مبكرة والانسحاب جهل بالتاريخ.
إطلال الماضى جملة عابرة بقدر ما تنهض القوى الحية لتقول كلمتها ويكون خطابها مقنعا وفعلها مؤثرا.
فى رفع منسوب السياسة تتأكد قوة الدولة والقدرة على صنع التوافقات العامة بصورة طبيعية لا اصطناع فيها.
بقدر الانفتاح السياسى يتماسك المجتمع فى حربه ضد الإرهاب.
المجتمع المفتوح يؤكد التنوع الطبيعى، والقواعد الديمقراطية تؤكد انتساب الدولة إلى عصرها.
غياب البرامج السياسية من أسباب العزوف.
فقر الرؤى والأفكار والتصورات يجفف أى قدرة على التجديد ويحجب أى أمل فى المستقبل.
ما تحتاجه مصر أن تفتح مجالها العام لكل تنوع فى الرأى وكل اجتهاد فى الفكر.
لا يصح أن تتحول جماعة الإخوان المسلمين إلى فزاعة تمنع الديمقراطية، فقد تراجع أثرها فى الشارع المصرى بفداحة بسبب انخراطها فى العنف.
بتلخيص ما، كانت القضية الأمنية على رأس كل الأولويات بعد (٣٠) يونيو، فالحدود بحالة انكشاف كامل، والإرهاب يطل برصاصه وعبواته الناسفة وسياراته الملغمة، وسيناء تحت تهديد وجودى.
الآن الصورة اختلفت، تقوضت جماعات الإرهاب إلى حد كبير فى سيناء وفى الداخل المصرى على حد سواء.
الأولوية فى هذه اللحظة الاقتصاد ثم الاقتصاد ثم الاقتصاد.
الأمن فى المركز التالى، والأزمات الإقليمية تحل بعدها على سلم الأولويات الرئاسية.
فى كل الأولويات تكاد تخفت تماما الأزمة السياسية.
الاقتصاد والأمن والإقليم مسائل سياسة على درجة عالية من الخطورة والحساسية.
البداية دائما من الأفكار والتصورات.
فى فقر الأفكار أزمات مؤجلة مرشحة للانفجار.
السيولة تجتاح المشهد كله بصورة يصعب أن تستمر، فالحقائق سوف تنزل على الأرض.
فى العزوف عن صناديق الاقتراع شهادة احتجاج على هذا المستوى من التدهور السياسى.
كل ما هو مصطنع لا يصمد أمام الاختبارات السياسية.
أول اختبارات الأحزاب الجديدة التى قد تحظى بنسبة نواب معقولة مدى التزام نوابها.
فى غياب الرؤية المشتركة يصعب الحديث عن الالتزام الحزبى.
الأحزاب تقوى داخل البرلمانات بقدر ما تطرح من رؤى وتصورات.
الاستهتار البالغ بفكرة البرامج سوف يفضى إلى فوضى كبرى داخل البرلمان المقبل.
بحكم تشكيلته المتوقعة لن يتبنى قضية واحدة فى العدل الاجتماعى.
وهذا مشروع اضطراب ينقل التفاعلات من تحت القبة إلى الشوارع مرة أخرى.
هناك قوتان اجتماعيتان لم تبديا حماسا كبيرا للانتخابات يأسا من أى تغيير فى جودة حياتها.
الأولى الطبقة الوسطى المدينية والثانية الفئات الأكثر فقرا وعوزا.
هذه حقيقة لا يصح إنكارها ولا التهوين منها.
فى الإنكار تجهيل بالأزمة وفى التهوين لف ودوران حولها.
كما كان عزوف القطاع الأكبر من الشباب ترجمة لنوع آخر من الاحتجاج على البيئة السياسية العامة.
فى الاحتجاج الأول أبدت الرئاسة نوعا من الاقتراب الرمزى وفى الثانى غاب حتى الآن أى اقتراب.
فى يوم إعلان نتائج الجولة الانتخابية الأولى أعلنت الرئاسة قبول استقالة محافظ البنك المركزى «هشام رامز».
بدت الاستقالة فى توقيتها استجابة ما لغضب فى الشارع من خفض قيمة الجنيه المصرى مرتين على التوالى.
لم تكن هناك ضرورة ملحة لإعلان قبول استقالته قبل أكثر من شهر من انتهاء ولايته لكن الأسباب السياسية غلبت كل شىء.
غير أن تحميل المحافظ المنتهية ولايته المسئولية وحده فى تخفيض قيمة الجنيه المصرى قد يكون إجحافا بالحقيقة.
فهو لا يمكن أن يصدر مثل هذه الإجراءات السيادية قبل أن يستطلع الرأى ويستأذن فيه.
إذا لم يكن قد استطلع فإن ذلك ينال من كفاءة الأداء العام داخل مؤسسات الدولة.
السياسة النقدية ترتبط بالضرورة بالسياستين الاقتصادية والمالية، وإلا فإنها فوضى.
خفض قيمة الجنيه المصرى يعنى بالضبط رفع أسعار السلع الرئيسية التى يئن المصريون العاديون تحتها، وزيادة معدلات التضخم بما لا يحتمل فى مجتمع يعانى بقسوة.
لا يكفى أن يدعو الرئيس محافظ البنك المركزى الجديد إلى المضى قدما فى تنفيذ برنامج الإصلاح الاقتصادى، مع عدم المساس بمحدودى الدخل والفئات الأولى بالرعاية والعمل على توفير جميع سبل الدعم لها.
هذا يتجاوز صلاحياته التى ليس من بينها رسم السياسات الاقتصادية العامة ولا التدخل فى أعمال الحكومة وبرامجها.
إذا لم يبدأ الآن حوار جدى عن المستقبل وتحدياته وسبل صناعة توافقات عامة واسعة يقوده الرئيس بنفسه فإننا داخلون لا محالة إلى هزات لا تحتملها مصر.
أى حوار جدى لا بد أن يتطرق بالضرورة إلى الأولويات الاقتصادية، ما هى بالضبط وما جدوى بعض المشروعات الكبرى.
كما لا بد أن يتطرق بكل وضوح إلى الانحيازات الاجتماعية وملفات الفساد وتغول الحيتان الكبيرة على المقدرات العامة.
والأهم من ذلك كله تغيير البيئة السياسية التى أكدت صدمة العزوف أنها فى حالة انكشاف خطير.