حرف الدال - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 11:34 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حرف الدال

نشر فى : الخميس 26 أكتوبر 2017 - 9:55 م | آخر تحديث : الخميس 26 أكتوبر 2017 - 9:55 م

كتبت صاحبتنا حرف الدال على ورقة بيضاء أمامها وراحت تتفرس فيه، لم تلحظ من قبل هذه الانسيابية الكبيرة التى تميزه ولا هذه الالتواءة الخفيفة فى زاويته التى تباعد بينه وبين أن يكون شكلا هندسيا منضبطا، لم تلحظ ذلك من قبل لكنها الآن باتت تفعل. ليس هو بالحرف المنقوط من أعلى أو من أسفل كحرف القاف أو الجيم مثلا حتى إذا فاتك تنقيطه تغير النطق وأحيانا المعنى فحرف الدال هو حرف الدال، ولا هو حكر على اللغة العربية كحرف الضاد مثلا لكنه حرف عابر للغات واصل بين الثقافات، وهو سهل خفيف يتلفظ به الطفل أول ما يتعلم لغة الكلام فتتوالى دالات كثيرة دددددد على لسانه فيطير الأهل فرحا بصغيرهم. ابتسمت صاحبتنا بينها وبين نفسها وسألت.. ما كل هذا الغزل فى حرف الدال يا ست انتِ؟ ردت على السؤال بسؤال: هل هذا فعلا غزل فى حرف الدال أم أنه عجب من حاله وأحوال طالبيه؟
***

من حق حرف الدال أن يتيه ويفخر عندما يقارِن نفسه بسائر حروف اللغة العربية الأخرى، ليس لأسباب تتصل بجمالياته أو وضوحه أو سهولته لكن لسبب مختلف تماما. تحمل إضافة حرف الدال قبل اسم الشخص نقلة نوعية ملموسة فى وضعه العلمى فيتحول فى السلك الجامعى من كونه عضوا بالهيئة المعاونة واسمه مكتوب بالقلم الرصاص ــ أى معرض للفصل فى أى لحظةــ إلى عضو هيئة تدريس لا يُفصَل إلا بإجراءات معقدة ولسبب جلل. وخارج نطاق الجامعة فإن حرف الدال يضفى على صاحبه منزلة اجتماعية رفيعة فأن تكون الأستاذ أحمد غير أن تكون الدكتور أحمد. ومع أن حرف الميم حين يسبق اسم الشخص يعنى أن صاحبه قد تخرج من كلية الهندسةــ وهى كلية معتبرة ــ إلا أن البريق الذى يلازم حرف الدال يظل أقوى بما لا يقاس. ثم أن هذا الحرف هدية ثمينة تُهدَى لأصحاب الأيادى البيضاء والمقام الرفيع ممن تسبق أسماءهم بالفعل حزمة من الألقاب الفخمة من نوع معالى وسعادة وفضيلة فيأتى الدال ليتلألأ بينها ويجمع حامله المجد من جميع أطرافه.
***

أصبح حرف الدال مخزنا للقيمة، يطلب وده الشباب ويقبلون على التسجيل بالدراسات العليا حرصا عليه، يعتبرون الحد الأدنى لكتابة رسائلهم هو الحد الأقصى لإنجازها فهم لا يطيقون على التدقيق صبرا، ينتجون رسائل متماثلة إلا قليلا ولا بأس أبدا من استعانتهم ب» صديق» ــ والمحصلة زيادة فى عدد الدكاترة وانخفاض فى مستوى رسائل الدكتوراه. ثم إن بعض من جرفتهم دوامة الحياة فأنستهم إدراك الدال فى شرخ الصبا أو لم يخطر على بالهم أصلا طلبه تغريهم الأهمية المتزايدة للحرف الثمين على إضافته لأسمائهم بجرة قلم، فيقدم الواحد منهم نفسه للمجتمع على أنه الدكتور فلان وقد يزيد فيضيف ألفا قبل الدال ليصير الأستاذ الدكتور فلان، وبتكرار التلازم بين الاسم واللقب يعتاد الناس أن ينادونه كما يحب، ويجد من يعرف أصل الحكاية حرجا كبيرا فى أن يُسقِط هذا اللقب المنتحل ولعل أحدا لن يصدقه أو يطاوعه إن هو فعل. واقع الأمر أن بعض من ينتحلون دالا لا تخصهم تكون لهم قيمة فكرية تسمو كثيرا على حرف الدال، وجزء مما أنتجوه من علم قد يكون ساهم فى تكوين إدراك الآلاف ممن تحصلوا على درجة الدكتوراه، ومع ذلك هم يحبون أن تكون صلتهم بالحرف إياه مباشرة وليست عبر وسطاء فيتوكلون على الله ويضيفون الدال .
***
لكن ما سبق لا يشرح كل العلاقة الملتبسة مع حرف الدال فمازالت للأمر أبعاد أخرى، أحيانا يتطوع المجتمع نفسه فيخلع على الشخص المثقف لقب دكتور، يتحول اللقب فى هذه الحالة إلى صفة نابعة من نظرة المجتمع للشخص انطلاقا من أن كل مثقف دكتور بالضرورة والعكس صحيح. أما أساتذة الجامعة من الأطباء فحكايتهم مع اللقب حكاية، يعتبرون أنهم بحكم دراستهم للطب دكاترة بالطبيعة فإذا ما أتموا دراساتهم العليا فلابد لهم من لقب إضافى يميزهم عن جموع المتخرجين من كليات الطب، وعادة ما يكون هذا اللقب هو لقب «بك».

***
كان حرف الدال مازال مكتوبا بالقلم الرصاص على الورقة البيضاء أمام صاحبتنا حين هاجمتها كل هذه الأفكار وطافت بها فى اتجاهات عديدة، بدا الحرف بريئا لا صلة له البتة بما يُلصَق فيه وما يُفتَرى به عليه براءة الذئب من دم ابن يعقوب. التقطت صاحبتنا قلمها مجددا وكتبت إلى جانب الحرف إياه نونا وياء وألفا ونطقت الكلمة مجمعة فكانت: دنيا.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات