ساقنى الحظ ذات يوم للنزول بفندق بنسلفانيا الواقع بالشارع السابع فى مانهاتن بنيويورك. الفندق فى موقع ممتاز يتوسط قلب المدينة، وبالقرب منه توجد المطاعم والمتاجر الكبرى، توجد كذلك الحانات والمسارح ودور العرض السينمائى.. وعلى الناحية المقابلة للفندق تقع الحلبة الشهيرة التى تقام عليها مباريات الملاكمة والمصارعة التى يتابعها ويقامر على مبارياتها الملايين من خلال مكاتب المراهنات التى تعيش وتزدهر بفضل هذه الحلبة.
للفندق أيضا واجهة كلاسيكية تجعله مختلفا عن البنايات الحديثة ذات الطابع العملى الخالى من الجمال، وله بهو كبير كأنه مدخل أحد القصور الفخيمة.
ورغم كل الأبهة المحيطة بالمظهر الخارجى للفندق فقد كان تصنيفه هو نجمتان فقط لا أكثر!
للأسف لم تكن تجربتى بالفندق مُرضية لأننى لمحت فأرًا كبيرًا يجرى بين الردهات، وقد تكفل هذا الفأر بسد نفسى عن الفندق ووضَع حجابا بينى وبينه.. ليس هذا فقط ولكن الغرفة التى فى حجم علبة الكبريت أطبقت على ضلوعى وكتمت أنفاسى ومنعتنى من التنفس الحر، كما اضطرتنى للجلوس على السرير لمشاهدة التليفزيون!
لكن يبدو أن رأيى هذا كان يخصنى وحدى، لأننى لاحظت أن الطاقم الجوى لأكثر من شركة طيران كان ينزل بالفندق بما يدل على الرضا والسعادة من جانب شركات الطيران بالفندق!
شعرت بدهشة لأننى بحكم الخبرة أعرف الآلية التى يتم بها تعاقد الشركات مع فندق، وأعرف كيف يمكن لشركة الطيران أن تجعل الفندق يقدم تنازلات وتدليلا يصل إلى عمل عجين الفلاحة من أجل الفوز بالصفقة التى تتنازع عليها فنادق المدينة، فالحصول على تعاقد مع شركة لها رحلات متصلة إلى المدينة هو بيزنس ضخم يكفل للفندق ملء حوالى 40 غرفة أو أكثر يوميًا طوال العام، لهذا فإننى رأيت فنادق تنزل على طلبات أفراد الركب الطائر وتحضر لهم الطبق الفضائى الهندى الذى يذيع أفلام بوليود طوال اليوم، كما رأيت فنادق تلتقط النايل سات وعرب سات من أجل الطواقم العربية.
هذا الفندق لم يكن به أى شىء من هذا ولم يكن بالغرف ما يغرى أطقم القيادة والضيافة بالنزول فيه، فضلا عن أن هذه الأطقم فى العادة لا تتنازل عن السكن فى فنادق الخمس نجوم، ويا ويل المدير الإقليمى الذى يفكر أن يتعاقد للطيارين والمضيفين على فندق أربع نجوم.. هذا يتم التشهير به والغمز بأن له مصلحة مع الفندق، ثم يرغمونه على فسخ التعاقد والتوجه لفندق ذى نجوم خمس يليق بشركات الطيران المحترمة.
هذا وتتميز نيويورك عن غيرها من النقاط بأن السفر إليها من العالم القديم فى أوروبا وإفريقيا وآسيا لا بد أن يتضمن مبيتا للطاقم، وهذا يختلف عن السفر بين بلدان أوروبا أو بين بعض البلاد العربية المتجاورة حيث يمكن للطائرة أن تقوم بالرحلة ذهابا وعودة بنفس الفريق. وتجدر الإشارة إلى أن لوائح منظمة الطيران المدنى تكفل لطاقم الطائرة ألا يتعرض للإجهاد وأن يستريح وقتا كافيا قبل عمل رحلة العودة بالنسبة للرحلات الطويلة. وترجمة هذا الكلام عمليا أن شركات الطيران التى تذهب إلى نيويورك أو لوس أنجلوس تترك الطاقم يستريح فى الفندق بين ثلاثة إلى أربعة أيام قبل تكليفه برحلة عودة.
نعود إلى فندق بنسلفانيا الذى اكتشفت أن بعض شركات الطيران تتعاقد معه بناء على طلب الركب الطائر لسبب كان بالنسبة لى مذهلا.. وفى الحقيقة أننى عندما نزلت بهذا الفندق منذ سنوات طويلة لم أتردد فى سؤال بعض نزلاء شركات الطيران عن سر تفضيل هذا الفندق الذى رأيته متواضعا، ولم تخرج الإجابات عن أن الموقع ممتاز والمحلات المجاورة تكفل التبضع والتسوق بسهولة. لم ترق لى هذه الإجابات خصوصا وأن منطقة مانهاتن تزخر بالفنادق الفخمة من فئة الخمس نجوم وبإمكان شركات الطيران دائما الحصول على أسعار تفضيلية كما أسلفنا.
بعد بحث واستقصاء اكتشفت أن هذا الفندق يمنح الأطقم ميزة غريبة وهى أنه يقدم لمن لا يرغب فى تناول وجبة الإفطار ثمن الوجبة نقدا، وهو فى حدود عشرة دولارات!
هذا هو السبب إذن فى تمسك البعض بفندق متواضع كهذا.. الشركة تتكفل بدفع ثمن الغرفة ودفع ثمن الإفطار، وبعد ذلك لا يجد الفندق غضاضة فى أن يعيد رد ثمن الإفطار للأفراد حتى يغريهم بالتمسك به. أدهشتنى هذه الحقيقة ولم أفهم كيف يفضلون عشرة دولارات على بوفيه إفطار فاخر، وماذا تفعل لهم هذه الدولارات القليلة إذا أراد الواحد منهم أن يفطر بمعرفته فى الشارع؟.. وهنا تأتى الإجابة بأنهم أحضروا معهم الزادة والزوادة من جبن وبسطرمة ومخلل وخبز وشاى وسكر ولا يحتاجون إلى شىء من أحد!
من الإنصاف أن أقول إن هذا الأمر كان منذ سنوات ولا أدرى إذا كان مستمرا للآن أم أن الفندق قد تحسن وكف عن تقديم الرشاوى الميرى للنزلاء!
وأختم هذا الحديث بحوار دار بينى وبين أحد مدراء شركات الطيران، وقد روى لى ضاحكا كيف أن بعض أفراد الطاقم غضبوا منه ونقموا عليه أشد النقمة عندما علموا أنه ينوى توقيع عقد مع أحد فنادق الخمسة نجوم يتضمن سعرا منخفضا وإفطارا مجانيا، وهو عقد يحقق للشركة وفرا طيبا فى بند الإقامة بالفنادق.. لكن هذا العرض على روعته كان يعنى أن الغرفة لها سعر، أما بوفيه الإفطار المفتوح فهو هدية فوق البيعة.. وكان معنى أن الإفطار مجانى وبلا سعر مثبت فى الفواتير أن أفراد الطاقم لن يستطيعوا أن يأخذوا فلوسا بدلا منه من إدارة الفندق، وهذا سبب كاف لصرف النظر عن هذا الفندق الردىء، البخيل، الأنانى، الساقط!