حين يفيض الحنين! - خولة مطر - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 8:18 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

حين يفيض الحنين!

نشر فى : الثلاثاء 27 يوليه 2010 - 10:05 ص | آخر تحديث : الثلاثاء 27 يوليه 2010 - 10:05 ص
فى السفر سبع منافع.. قالوا. لكن من جرب السفر يعرف أن له أكثر من ذلك بكثير. تبعد فتقترب. هذه هى المعادلة.. وتبعد أيضا فترى أكثر وضوحا، وتسافر لتبقى هنا.. وترحل لتملأ مخزون الذاكرة بصور متعددة تجدها طازجة دائما.. كما أنك تسافر لتحلم أو لتعيش أو لتستنشق عطر زهرة لم تعرفها أو تر شجرة ذات غصون خضراء غابت عن مكانك هى ولونها.. تسافر لأنك تحن للنخلة والنحلة والعصفور المرفرف بأجنحة الطيف.

تسافر لأن السفر يخلق مساحات للخيال ويمحى أيضا مساحات أخرى كنت قد تخيلتها خطأ. ترسم صورة للهناك، للآخر، لشوارع وطرقات متفرعة ومبانٍ تحمل لونا موحدا وأحيانا ألوانا متقاربة. كم هو جميل التناغم فى الاصفطاف سواء للبشر أو الحجر. لمسارح ومقاهٍ لا تتعطر بتبغ الشيشة بل بروائح الأجساد المنتشية بعطورات هى عصارة مئات الأزهار.

رحيقها يسقى مصانع عطور فى باريس وروما، والآن حتى فى عواصم كانت حتى وقت قريب تعشق الروائح المستوردة، ثم عادت لقديمها بين المسك والعنبر. خلطة تسكن كف فتاة أو تختبئ خلف أذنها فينتشر العطر الجميل فيما الكل يبحث عن سر المكان.

السفر والحلم كثير ما يتقاطعان. تحلم فتسافر أو ربما تسافر لتتعلم فن الحلم بعد أن أصبح خارج الكوابيس وأثناء ساعات النوم المختزلة حراما، وربما شيئا من المنكر.

تسافر لتعيد صياغة التاريخ والجغرافيا التى تعلمتها من كتب تحمل طبقات من غبار الزمن السحيق. تفسخ عقدك مع تلك الكتب وتعود لتنبش الماضى العريق بنفسك. تتلامس مع تقاطعات الحضارات.. هنا طريق العطور وهناك طريق التوابل وبعدها طرق ومدارات.

أما الجغرافيا فتعاينها بنفسك تجلس عند حدود كانت. تحبس أنفاسك لتلتقط صورة تعيدها معك فى ملف يزدحم بالصور والمشاهد هى زادك عندما يفيض بك الحنين.

تعيد التاريخ والجغرافيا فى ألبوم صور. تحاول أن تحافظ عليه. تحمله حيث ترحل. لا تتركه يبتعد لكأن فى ذلك ضياع للحظات سرقت من زحمة الأيام المتلاطمة.

فى السفر سرقة للنفس من اكتظاظ الزمن أو هى قفزة فى الهواء لقطف منال قد نطاله وقد نفشل. عزاؤنا أننا حاولنا كما علمنا صلاح جاهين «أنا اللى بالأمر المحال اغتوى.. شفت القمر.. نطيت لفوق فى الهوا.. طلته.. ما طلتوش.. إيه أنا يهمنى وليه.. مدام بالنشوى قلبى ارتوى.. عجبى»!! ولكل تفسيره لكلمات شاعرنا الجميل ذاك الذى عجب من الكثير. هو الذى جعل للمفردة معانى عدة وأعاد لها مكانتها بين الكلمات المبعثرة فى قواميس اللغات.

بعضهم يخشى القفز، يتهيأ، يتحفز، لكنه يقع فى حفرة خوفه إلا أننا لا نزال نعيد تكرارها كلما قال حاولت ولم «أطل».. فتعيد الجوقة التكرار «لك شرف المحاولة»!

ينتشى القلب بمجرد المحاولة التى نخزنها بين أضلعنا. نحفظها هناك فى المساحة الخاصة جدا بعيدا عن نظر المتطفلين والحاسدين والمتوجسين والباحثين عن قصص لتسلية جلسات الشاى العصرية يمررنها بين رشفة وأخرى فينتشى الجو بحبور وضحك زائف!

هو السفر ذو الفوائد السبع، وأهمها اشتياق للاشتياق. تخزين لطاقة تساهم فى تظليل الأيام القاسية ببردها وحرها. القسوة ليست فقط فى قيظ الصيف بل أيضا فى صقيع ليل الشتاء وظلمته الموحشة.

ترحل عن المكان إلى المكان.. تتخفف من كل الأحمال الثقيلة على الجسد أو النفس أو الذاكرة. تتخلص من بعض ماضٍ، تقوم بجردة أخيرة على الذكريات. تغسل بماء زهر الياسمين الدماغ. تلف الياسمينة حول الياسمينة وبينهما تغرس فله تحضنها بخيط رفيع لتلتصقا هذه بتلك كل منها تمنح بعضا منها للأخرى. أليس الواحد للكل والكل للواحد وفق مبدأ العدل الأول وربما الحب الأول أيضا؟!

فى السفر لا تسمع إلا العصافير، لا يحاصرك إلا الحمام ولا تستنشق الا الياسمين. ربما لأنه الهناك، لأنه المؤقت الجميل!

عند الرحيل يعود الهدوء المتعب يسكننا. صمت مريب يسود صمت مشاغب. نشتاق إلى صخب الهناك المريح. نتحسس نشوى الارتحال وجلد الحقائب المسافرة. كم منا يحمل فى حقائبه أحلى عمره وأحيانا.. وطنه!

إن تسافر حتى ولو على بعد خطوات فضائيه من مكانك، يعنى أن تتنفس، تتجدد، تتعولم وتتعلم، أن المدن بساكنيها لا بحجارتها وطينها.. يعنى أن تغسل روحك بماء الزعفران وقليل من رحيق الورد وعبق الود.
خولة مطر  كاتبة صحفية من البحرين
التعليقات