ختيارة ومبسوطة - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 4:30 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ختيارة ومبسوطة

نشر فى : الأربعاء 27 نوفمبر 2019 - 9:15 م | آخر تحديث : الأربعاء 27 نوفمبر 2019 - 9:15 م

تلفت نظرى فى الفترات الأخيرة مجموعات سياحية مؤلفة من رجال ونساء بعمر والدى، أى من الجيل الذى يسبقنى، ألاحظ وجودهم حولى حين أزور المناطق الأثرية أو فى المقاهى المحلية. وجوههم ضاحكة تدل على الرضا: رضا من الحياة، رضا من الرحلة، رضا من الأصدقاء الذين يرافقونهم. أراقبهم فى المطعم أو فى الشارع، أندس أحيانا بينهم وأمشى بضعة أمتار معهم متظاهرة بأننى أشق طريقا بينهم حتى أصل إلى مكان ما، إنما فى الحقيقة أنا أحاول أن ألتقط كلمات من أحاديثهم حتى أفهم من هم وما يدفعهم إلى زيارة بلاد غالبا ما تظهر فى الأخبار على أنها منكوبة أو عامرة بالمشاكل. لكن جل ما أحاول أن أفهمه هو تعاملهم مع فترة ما بعد التقاعد وإقبالهم على الحياة بشكل عذب ومفرح.
***
أقف خلف رجل وامرأة فى بهو فندق أحضر فيه اجتماعا، أستمع إليهما يتكلمان بشغف عن يومهما وما زاراه. يرسل الرجل رسالة نصية إلى أحد أبنائه بحسب ما أفهمه، ليخبره عن تغيير فى الرحلة، فقد قرر وزوجته أن يلتحقا بمجموعة أخرى سوف تخرج إلى الصحراء فى اليوم التالى.
***
جزء منى يريد أيضا أن يفهم العقل الغربى من الجيل الأكبر سنا، أريد أن أعرف أكثر عن اهتماماتهم، ما الذى يشغلهم اليوم، فى مرحلة عمرية يبدو أنهم يستمتعون بها كثيرا، فأنا أسمع تعليقاتهم فى الصباح وأراهم يبدون اهتماما صادقا بالتحدث مع كل من يصادفهم، من الدليل السياحى إلى عمال المطعم إلى سائق الباص. لكن ما يثير فضولا أكثر هو أن ثمة جيلا متقدما فى السن ما زالت لديه الرغبة فى السفر والاكتشاف والترفيه، هم رجال ونساء يبدو أنهم انتهوا من مرحلة المسئوليات والعمل وتربية الأولاد وترتيب اجتماعات مع المعلمين فى المدرسة وها هم فى مرحلة التقاعد من العمل وليس التقاعد من الحياة.
***
ما الذى يميز هؤلاء عن أمثالهم ممن تقاعدوا عن الحياة وزهدوا منها؟ كيف أعاد هؤلاء السياح خلق حياتهم فركزوا على الاستمتاع والاسترخاء؟ كيف جهزوا أنفسهم لليوم الذى انسحبوا فيه من طاحونة العمل والواجبات وجلسوا فيه على كرسى فى مقهى فى بلد بعيد جاءوه بحثا عن المعرفة والاستكشاف؟ هناك قطعا وفى المقام الأول عامل مادى يسمح لهم بهذا النوع من السفر. هناك أيضا عامل الصحة الذى يجعل رجلا فى الثمانين من عمره يقضى ليلة فى الصحراء حتى يستمتع بالنظر إلى النجوم. لكن هناك غطاء لكل الأسباب هو ثقة هؤلاء الأشخاص بأن هذا النوع من حياة ما بعد التقاعد هو عادى، هو حق، تحصيل حاصل، ألم يعملوا طوال حياتهم بجهد وجدية حتى يتمكنوا من توفير هذا النوع من المتعة لأنفسهم فى سنواتهم المتقدمة؟
***
الاستمتاع بفترة ما بعد التقاعد قد يبدو وكأنه نوع من الترف، فمعظم من أعرفهم أو أصدفهم فى حياتى اليومية من الجيل المتقدم فى العمر لم يخطط لرحلات إلى بلاد بعيدة. على الأغلب أنه لم يخطط لاسترخاء أعقد من تمضية وقت هادئ فى بيت يملكه وهو محاط بأحفاده. لا أريد هنا الدخول فى نقاش حول الفردية فى الغرب والتى يزعم أنها قد تكون الدافع من أجل سفر هؤلاء الأشخاص الذين وصفتهم، وبين حرارة المجتمعات الشرقية التى تتعامل فيها الأسرة مع كبار السن وكأنهم ملوكا. بصراحة فى هذا التوصيف تنميط مجحف وأنا أتمنى أن أكون فى المستقبل سائحة كبيرة فى السن بدل أن أكون جدة على كرسى فى بيت أنتظر فيه أحفادى. لقد تغيرت الحياة كثيرا فلم يعد معظم الأحفاد أصلا يعيشون قرب الجدات، فالعائلات أصبحت اليوم متفرقة حين اضطر الأبناء والبنات أن يبتعدوا أحيانا بسبب البحث عن الفرص وأحيانا بسبب السياسة.
***
أنا فعلا معجبة بحالة هى نتاج منظومة سياسية اجتماعية نفسية متكاملة يمضى فيها الشخص حياته وهو يعمل ويدفع ضرائب ويساهم فى صندوق ادخار سوف يتيح له حياة معقولة حين يتقاعد. أنا معجبة بمن يخططون لمرحلة ما بعد التقاعد ويستمتعون بها. وأنا أيضا أعى أن جزءا كبيرا من هذا التخطيط يعتمد بالأساس على المنظومة التى تحتوى الشخص، تماما كما هو الحال بالنسبة إلى معظم المواضيع الأخرى التى تدعم الفرد وحقوقه. من التعليم إلى الحق فى الصحة إلى إمكانية الاستناد إلى نظام قانونى واضح، هى كلها تهيئ للفرد مرحلة ما بعد سن التقاعد، وها نحن نعود إلى علاقة الفرد بالدولة وبما تتيحه له من حقوق وفرص. أعرف أن حديثى سوف يجذب ردة فعل صرت أحفظها عن ظهر قلب «وماذا عن من يرمون بأهلهم فى دور المسنين؟» هذا ليس موضوعى.
***
موضوعى هو شخص سبعينى أو ثمانينى ألتقيه فى أماكن سياحية وأرى بين تجاعيده دهشة حقيقية أمام جمال الآثار. أسمع فى صوته مرحا حين يخاطب أصدقاءه فى السفر ليعرض عليهم تغييرا صغيرا فى الخطة. موضوعى هو ثقة هؤلاء الأشخاص أن غدا قد أتى، وهو وقت صار ملكهم بعيدا عن الالتزامات. موضوعى هو أن ثمة أنظمة اجتماعية تتيح للكثيرين حالة من الراحة والتصالح والاستمتاع بالحياة فى سن السبعين فما فوق. أنا عن نفسى أخطط لهذا اليوم، أكون فيه ختيارة ومبسوطة.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات