الخليج ــ الإمارات: شجرة الذاكرة - صحافة عربية - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 6:56 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الخليج ــ الإمارات: شجرة الذاكرة

نشر فى : الجمعة 29 يناير 2021 - 9:05 م | آخر تحديث : الجمعة 29 يناير 2021 - 9:05 م

نشرت صحيفة الخليج الإماراتية مقالا للكاتب عبدالحسين شعبان.. نعرض منه ما يلى.

لا تترك جائحة «كورونا» شيئا إلاّ واستفزّته، حتى لكأنها تعيد البديهى من الأشياء، ولأنها لا تستثنى أحدا، الغنى والفقير والرئيس والمرءوس والمريض والطبيب، فقد أعادت التفكير بالمساواة والتعاون بين البشر لمواجهة هذا الخطر الغامض والداهم، وكأنها تذكّرنا بقانون الطبيعة، حيث خُلق الناس بأشكالهم وألوانهم وأجناسهم وألسنتهم وأديانهم وعروقهم وانحداراتهم الاجتماعية متساوين ومختلفين فى آن، الأمر الذى يقتضى تعاونهم، فالإنسان كائن اجتماعى بطبعه ومدنى بفطرته، وهو ما شاع على لسان أرسطو ومن بعده عبدالرحمن بن خلدون الذى أضاف تميزّه بالعقل.
لم يدع الفيروس لحظة تهرب من بين أصابعنا؛ لأن عكسها سيعنى الاستسلام، وهكذا تتحوّل الطاقة الإيجابية التى يحملها الإنسان إلى الضد منها، فكان لا بدّ من الاستعانة بالذاكرة للتدوين والكتابة، على الرغم من أنها أحيانا تمطر وحشةً وغموضا بقدر ما يفوح منها عطرٌ وأمل، ولكل شخص ذاكرته التى تشبهه، وبقدر ما هى واقعية فأحيانا يدخل عليها عنصر التخيّل لإعادة تأثيثها.
وكلام الحجر الذى لا يزال يجثم فوق الصدور تتزاحم فيه الأيام والليالى، بل والسويعات، بعضها بحزن شديد وبعضها بلا مبالاة أحيانا حدّ الضجر، أو بأمل مستنفر، حين يبدأ الحوار مع الذات التى تحتاج إلى كشف بعض مكنوناتها فى لحظة مصارحةٍ، ليس لماضيها فحسب، بل لحاضرها ومستقبلها أيضا، فالذاكرة مستودع كبير لكثير من الحكايات والأسرار والمعلومات، فما بالك حين تُقدّم بحبكة درامية لتجارب مريرة ومثيرة تعكس ثقافة صاحبها وعمق أفكاره، وهذه تحتاج بالطبع إلى محفزّات لفكّ ألغازها وفتح أقفال خزائنها.
فى هذه الأجواء قرأت رواية «الشجرة الهلامية» لعبدالسلام بو طيب، الحقوقى المغربى ومنظم مهرجان الناضور السينمائى، التى تتحدث عن رجل يتم حجره 100 يوم فى باريس، ولم يبقَ أمامه سوى حوار مع الشجرة التى تنتصب أمام بيته، حيث يأتيه صوتها خفيفا متموجا يشبه الأثير فى مدينة الجن والملائكة، فى لغة غامضة لا يفهمها إلاّ هو وصديقته الشجرة التى يغنّجها بـ «دولوريس»، والتى تذكرّه بالشجرة الهلامية فى منطقة الريف، فيتبادل طرفا الحوار المواقع: هو والشجرة، ويتقاسمان الأصوات لدرجة أنك لا تفرق بينه وبينها أحيانا، حيث تختلط الصور والأصوات والآراء.
باستعادة ذاكرته السجينة، يقول إن كل شيء هناك يتغير: الزمن والعادات والأشياء؛ لذلك عليك أن تستعيد توازنك، باستذكار نيلسون مانديلا، الذى كان طوال سنوات سجنه التى استمرت 27 عاما يزرع أشجارا فى قنينات الزيت الفارغة من سعة 5 لترات، ويعتبرها الوحيدة الحرة، أى من صديقاته وأصدقائه الأحرار.
كان الوطن فى الحجر يعنى لعبدالسلام «وسادته الحبيبة» التى افتقدها، والوطن حسب محمود درويش «هو هذا الاغتراب الذى يفترسك»، وهكذا قدّم بو طيب فى سرديته الزمن من خلال وسادته، التى ظلّت خالية ووحيدة تذكّرنا «بالوسادة الخالية» وهى رواية كتبها إحسان عبدالقدوس وقدّمها المخرج صلاح أبو سيف فى العام 1957 فى فيلم من بطولة عبدالحليم حافظ ولبنى عبدالعزيز.
يتعاشق فى ذاكرة بو طيب سجن الماضى ورحابة الحاضر، بما فيها فترة الحجر، فالذاكرة يمكن أن تحوّل الإنسان إلى رهينة لها أو حتى ضحية، فى حين أن الصفح والغفران والمقصود التسامح يحولها إلى شيء إيجابى دون أن يعنى نسيان الماضى، وهو ما يذكّر بالطاهر بن جلّون الذى فتح صندوق خزانته ليعرض فى سرديته ألمه النفسى، بعد عقود من الزمان فى روايته «تلك العتمة الباهرة»، التى استكملها بروايته «العقاب»، وهى إحدى روائع أدب السجون.
علينا التمييز بين أربعة أنواع من الذاكرة:
النوع الأول ــ الذاكرة الانفعالية، وهى ذاكرةٌ إرادوية يتم إسقاطها على الواقع.
الثاني ــ الذاكرة الحسّية، أى استعادة الأحوال والأهوال كوقائع ومفردات وتفاصيل يمكن تكييفها حسب قراءة الروائى والمؤرخ والشاهد والمشارك.
الثالث ــ الذاكرة المنظّمة، وهذه تقوم على استذكار واستخلاص المعانى والدروس والعبر التى تنتظم الذكريات فى إطارها، استنادا إلى المادة الأولية (الخام)، وصولا إلى الدلالة بفعل التحقّق، مع إضافة التفسيرات والتأويلات على النص أو الحدث أو الواقع المعيش.
الرابع ــ الذاكرة المحفّزة، وتبدأ مع الذاكرة الأولى، وفيها حنين (نستولوجيا) لاستذكار الزمن، وإعادة قراءته على نحو جديد، لا سيّما بعد تجارب عديدة، بما فيها ما هو ناجح وفاشل.
بهذه الصورة أرّخ بو طيب لذاكرته بروح شفيفةٍ وحساسية إنسانيةٍ، ولغةٍ رشيقة، وموسيقى جذّابة، بكتابةٍ وصور سينمائية وبصرية باهرة، كل ذلك لمواجهة فيروس «كورونا».

التعليقات