المندرة وحكايات أخرى - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 12:47 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المندرة وحكايات أخرى

نشر فى : السبت 29 فبراير 2020 - 8:15 م | آخر تحديث : السبت 29 فبراير 2020 - 8:15 م

فتحت رندا شعث صندوق الذكريات. قررت أن تفكك علاقاتها المعقدة بالأماكن، وبالفعل حكاياتها تجعلنا نغوص معها برفق في "جبل الرمل" الذي كان موجودا بالقرب من منزل جدتها لأمها بالمندرة. نغوص معها في جبل الذكريات التي لم تعد مجرد أشياء طفولية بسيطة كتلك التي جمعتها في صندوق صغير مزين بزهور الجاردينيا عند مغادرتها لبيروت بعد سنوات قليلة قضتها هناك وهي طفلة في الفترة ما بين 1969 و1975، بل حياة كاملة مليئة بالأحداث والمشاعر. كتاب "جبل الرمل"، الصادر عن دار الكرمة، هو مزيج من أدب السيرة والرحلات والسفر. لا نهتم ونحن نقرأه بالتصنيف من فرط ما يمسنا صدقه وحساسية السرد.
تروي رندا أحداثا مرت بها وعاصرناها، نشاركها حلم بناء مطار غزة الذي دمرته إسرائيل بعد ثلاث سنوات من بداية عمله، ونقتفي معها أثر محطة قطار غزة القديمة، نمشي معها خطوة خطوة وهي تتعرف على بيت عائلة شعث في يافا أو وهي تطير فوق السور العتيق كأنها عصفورة طائرة فوق قباب ومآذن وأجراس القدس، تكاد تلمس قبة الصخرة الذهبية. عين المصورة تلتقط المشاهد التي تقصها علينا، وهي شخصية حكاءة بالفطرة، ربما ورثت ذلك عن أبيها السياسي نبيل شعث أو عن جدتها فاطمة التي كانت تروي لها حكايات ست الحسن، وعندما كبرت رندا وصارت الجدة تنزعج من شكل شعرها الطويل المموج "المنكوش"، صارت تقول لها إن شعرها طويل ومموج مثل ست الحسن في الحواديت الشعبية.
***
أرادت دوما أن تكون داخل المكان تماما، من خلال صورها وكتبها ونشاطاتها المتعددة، وهي تفسر ذلك بعقدة الإنسان المهدد دائما بالطرد: من البلد، من المكان، من قلوب الناس، لاختلافه، وقد ولدت من أب فلسطيني وأم مصرية- صفاء- التي جعلتنا نتعلق بها ونتفهم رغبتها في أن تجعل أولادها يعيشون حياة طبيعية رغم تقلبات الصراعات السياسية التي عرفها الأب بحكم عمله، ونشعر بحرقة الفقد المفاجىء عندما ماتت الأم في حادث سيارة وعمرها 46 سنة، بعد خمسة أشهر من سفر رندا لإكمال دراستها العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، بعد دراستها للعلوم السياسية بالقاهرة.
تكتب رندا شعث عن محاولاتها المستميتة للانتماء، وقد خلقت وطنا لنفسها بما أن أحدا لم يعترف لها بوطن، ورغم صعوبة الأحاسيس التي تصفها إلا أنها تترفق بنفسها وبنا. ليست حمل قسوة الكلمات وتحاول أن تتجاوز أي مرارة، حتى حين تتسرب إلى نفسها أحيانا، بعد موت أخيها- علي- المفاجىء أو عند انفصالها عن زوجها توم بعد عشرين عاما من الزواج والحياة المشتركة، أو فور تركها وظيفتها كمحررة للصور، أو حين يهمس صديق في أذنها وهو يرمق ميدان التحرير أن ثورة يناير لن تتكرر، أو حتى عقب رحيل جدتها فاطمة وهدم بيت المندرة لبناء عمارات عشاوئية جديدة. هي تشبه تيتة فاطمة في مكان ما، فلم تكن هذه الأخيرة إنسانة تعيسة قط، بل امرأة مليئة بالنشاط والفكاهة، كما تصفها رندا، رغم أنها ترملت وهي في الثلاثينات من عمرها، وتحملت مسؤولية ستة أطفال وحدها. نكاد نراها وهي تعجن كحك العيد أو وهي تخيط ثياب عرائس أحفادها أو تعتني بحديقتها الغنية بأشجار الكافور والنخيل والجوافة والزيتون. نشعر ببهجة الأطفال في ظل طقوس الجدة السنوية وهي تقوم بتحضير الكسكسي والكحل والمربى. نحبها.
***
تبتعد رندا عن بيت المندرة، ثم تعود إليه بمزيد من الحكايات التي لا تنتهي. يتعرف عليها من لا يعرفها عن قرب، وهي التي اتخذت من الكاميرا ملاذا تعبر من خلاله عن مشاعرها ورؤيتها للعالم. نتعرف عن كثب بالمراهقة التي تحلم بفتى أحلام "ماركسي يوتوبي"، فتخبط الأم على صدرها، ونضحك حين ترد بسرعة بديهة على أحد الأصدقاء يتهمها بالبرجوازية: "أيوة برجوازية عندي تطلعات بروليتارية". تعزف العود وتتعلم الغناء وتزور الشيخ إمام في حوش قدم قبل سفرها لأمريكا، ومن خلال المخرج الفلسطيني ميشيل خليفي تربطها صداقة بأعضاء فرقة صابرين ومن ضمنهم كاميليا جبران. وقد كانت هذه هي المرة الأولى التي تتعرف إلى فلسطينيين من عمرها يعيشون داخل فلسطين ويعملون بالفن، ولكنها بالطبع لن تكون الأخيرة فستعقد فيما بعد الكثير من الصداقات الثرية.
أكاد أرى وجه رندا في كل صفحة وهي تكتم ابتسامة ساخرة أو تلمع عيناها بالدموع. امرأة وحيدة لا تثرثر، بل تحكي بسهولة وتغني أحيانا. تحفظ الكثير من الأغنيات المصرية والفلسطينية. تسترجع الذكريات بالغناء ومن خلال ما روته لها جدتها لأمها- تيتة فاطمة- أو جدتها لأبيها- سميحة، العروس البيروتية التي استقلت مع عريسها قطار الشرق لقضاء شهر العسل، متنقلة من مدينة عربية إلى أخرى. تربط في ذهننا التاريخ بالجغرافيا وبالهوية وبالسياسة. تعجنهم بالمحبة. نتجول معها من سويسرا إلى لبنان والجزائر وفلسطين ومصر وغيرها من البلدان. تعود بنا دوما إلى بيت المندرة حيث "جبل الرمل"، عنوان هذه السيرة البليغة، وإلى حي جاردن سيتي حيث مضت الجزء الأكبر من حياتها، بحلوها ومرها. نشم رائحة الجاردينيا من بيروت وبيارات البرتقال في فلسطين ورائحة البحر المالح في إسكندرية جدتها التي لا تزال تراها كلما نظرت إلى المرآة التي احتفظت بها، وهي كل ما تبقى لها من بيت المندرة.

التعليقات