فلنأخذ بيد الفيل! - كارولين كامل - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 7:55 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فلنأخذ بيد الفيل!

نشر فى : الإثنين 29 مايو 2023 - 8:25 م | آخر تحديث : الإثنين 29 مايو 2023 - 8:25 م
«فى مصر بنعمل كده»، كان ردى التلقائى الدفاعى عندما وبختنى أمى، بعد أن قدمت قبضة يدى بنقود إلى الشاب الذى باع لنا الحذاء وشكرته، أربكتنى نظرة الشاب وابتسامته المُحرجة، وتقهقره إلى الخلف وعقد يديه خلف ظهره، سحبتنى أمى من ذراعى، وخرجنا من المحل يعترينى خجل شديد، وعجزى عن فهم ما حدث حولى، الشاب وأمى وزوجة شقيقى ينظرون إلىَّ بلوم.
بعد عدة أمتار استوقفتنى أمى وقالت لى «إيه اللى عملتيه.. ده ابن صاحب المحل»، كررت جملتى السابقة أن هذا ما تعلمته بالتجربة والخبرة فى القاهرة؛ تقديم نفحة تقدير للعاملين فى المحلات التى يساعدنا فيها أحدهم للحصول على ما يناسبنا، وغيرها من الأماكن التى لا تقدم فاتورة خدمة تسمح لنا بترك بقشيش.
لفتت أمى نظرى إلى أن كثيرا من المحلات القديمة فى مدينتنا يتوارثها الأبناء وتصير مهنتهم، وبالتالى يتولون بأنفسهم العمل فيها، وتقديم تلك النفحة إليهم مُهينة.
تركتها وعدت أدراجى لتقديم اعتذار صادق للشاب، بعد أن استوعبت أن ما فعلته سبب له إهانة غير مقصودة، استقبلنى بابتسامة ولطف بالغين.
على مدى سنوات إقامتى بمفردى فى القاهرة، أعود إلى منزل أسرتى بالكثير من المعرفة والتجارب التى أحاول مشاركتها معهم، بمرونة كاذبة، أنفعل وأتنمر عندما لا يتلقون معرفتى الجديدة بالترحاب، ولكن بزحزحة ثقتى فى أن ما لدىَّ أفضل مما لديهم، صار لدىَّ فرصة التعرف على أن عدم قبولهم لبعض الأشياء ليس لعدم رضاهم عنها، ولكن ببساطة لأنها لا تناسبهم، وتحتاج إلى مجهود، دون أن تكون الحاجة إلى التغيير مُلحة.
• • •
مثل أى أسرة مصرية تنتمى إلى خلفيتنا الثقافية والاجتماعية، لدينا الورد البلاستيكى فى مزهريات، هذه القطع زائفة الرونق تجاور أصص الزرع الأخضر الطبيعى فى منزلنا، أنهكت أمى تهكما وسخرية، فى محاولة لإجبارها على التخلص من تلك الأفرع السوقية من وجهة نظرى.
كنت أحب هذه الأشياء البراقة اللامعة فى وقت ما فى حياتى، وتبدلت مشاعرى تجاهها، ولكن لم تتبدل مشاعر الآخرين، إلا أنه فى إحدى المرات تأملتها باستعلاء أقل، لم أحبها مرة أخرى، ولكن استوعبت بُعدا فنيا آخر فى وجودها، تناقضها مع نظيرها الحى، يبرز بساطة الحياة ورهافة واقعيتها.
الصور العائلية، خطوبة، زفاف، مولود جديد، حفل تناصير، الزى المدرسى فى أول يوم، أيقونات القديسين والقديسات، مقتنيات تغطى جدران الشقة، وغيرها من الديكورات محلية الصنع، تحمل ختم البيت المصرى، ويتوسطها التلفزيون فى منتصف الصالة، مكللا بكل تلك البهرجة.
لم أكن أعرف أن وجود هذه الأشياء يحجب الكثير من متعة مشاهدة ما يحدث على الشاشة، حتى لفت نظرى تعليق صديق أن مجال رؤيتنا ومتعتنا الذهنية مرتبط بالمساحة الخالية التى يتوسطها التلفزيون، التجربة التى ما أن قمت بتفعيلها فى حياتى حتى لمست الفرق.
عدت إلى منزل الأسرة، وألقيت بهذه التجربة العميقة فى وجوه الجميع، وعند التنفيذ العملى كان من الصعب إجلاء كل شىء من مكانه، ولكن على الأقل طالما كنت أنا موجودة تزيح أمى الكثير من مجال الرؤية، وعلى الرغم من أنى لا أشاهده كثيرا، فأنا أثمن مجهود أمى.
• • •
من قبل أسبوع، وقبل أن تلهبنا شمس الصيف، قضيت أنا وإحدى صديقاتى، عدة أيام فى حديقة الأورمان بالجيزة، لا تعجز أبدا الخضرة عن تبديد أى ضيق أشعر به، بل ويبدو كل شىء فى حضرتها مميزا، ساندويتشات الجبن بالخيار، العنب والخوخ، القراءة والنميمة، وغيرها من الأنشطة التى تحتضنها الأرض الأم بحب.
تقدم حديقة الأورمان مساحة خضراء مفتوحة فى وسط المدينة، فى متناول يد الجميع (هكذا أتمنى)، سهلة الوصول إليها، حيث تمر جميع وسائل النقل العام، لست بصدد وصف ما بها من طبيعة فريدة تجعلها مميزة بشكل خاص، ولكن تستحق بحيرة نبات البردى حيث تسبح زهرات اللوتس بلونها البنفسجى كراقصات باليه، على سطح من الورق الأخضر المفلطح، ومع ذلك هذه اللوحة البديعة، حيث تناغم الألوان والحيوات، يأتى الإنسان وحده بسلوكياته النشاز ويترك بصمته عليها.
تمشيت أنا وصديقتى وقطعنا الحديقة مرتين، جمعنا قدرا من القمامة الورقية، وأنا ألعن غباوة الإنسان، وافتقاده للحس الجمالى، واعتياده القبح حتى صار طبيعة مجاورة بحد ذاتها، وكلما امتلأ الكيس البلاستيكى بالقمامة، زاد غضبى من الاستسهال الذى يلقى به الزائر مخلفاته الشخصية فى المساحات العامة.
فى ظل بحثى وجمعى للقمامة، لم أنتبه إلى عدم وجود صفائح قمامة معلقة أو متراصة فى الطرقات، وإن وُجدت لا تصلح. تلفت حولى وسألت صديقتى عن مصير ما جمعناه، أخبرتنى أنها لمحت صفيحة بالقرب من مدخل الحديقة، توجهنا إليها ولم تكن تكفى ما بحوزتنا، سألنا أحد العمال عن كيفية التخلص من هذه الأكياس، أخبرنا أن نتركها فى أى مكان بجوار المدخل.
المسئولية الفردية، والمسئولية المجتمعية، والمسئولية الحكومية، مصطلحات يسهل التراشق بها للتخلص من الوصم والتقصير والجهل، بأن نُبقى البحث مستمرا فى مفردات الكلمات سنوات وسنوات، لن نعرف من أين يأتى القبح، والجهل والفقر ليسا سببين موضوعيين، ولدينا فى الكومباوندات أسوة، والسيارات الفارهة التى يلقى أصحابها بالقمامة من النافذة، وغيرها من سلوكيات تنم عن تدنى الذوق والأخلاق، ولا تعد حكرا على شريحة أو طبقة بذاتها.
«الفيل فى الغرفة»، من جملى المفضلة وأحب أن أستخدمها فى حديثى بكثافة، ربما لأنى أحب الفيلة بالأساس وأتمنى العيش بجوارها، ولكن وجودها فى غرفة هذه المقالة يُجسد ظاهرة عدم احترام حديقة الأورمان التى تزهر فيها النباتات السحرية، تزاحمها الأطباق الفلين وكل المصنوعات البلاستيكية، وأدنى حديث عن بشاعة ما يحدث فيها سوف يجرنا إلى تعقيدات بنيوية لا تبدو الطبيعة الأم فى حاجة إليها، خاصة وإن كانت الحديقة متنفسا للكثير من بنات وأبناء المدينة، واحترامها جزء أصيل من التعبير عن امتنان زوارها.
ختاما، لا يكفى أن أستعرض وأقول لأمى «عندنا فى مصر بنعمل كده» حتى أفرض معرفتى أو ثقافتى بالقوة، ولا يمكن نزع جميع الصور التى تراكمت بالذكريات عن الجدار لنشاهد التلفزيون دون تشتيت، وعلى المنوال ذاته الأورمان لا تحتاج إلى فتح حوار مجتمعى عن المسئوليات، أو خطة تطوير (رجاء)، وإنما تحتاج إلى أكبر عدد ممكن من صفائح القمامة، وموالاتها بالتفريغ المستمر، ولا مانع من تعليق اللافتات التى تشرح للزائرة والزائر الغرض منها، فلنأخذ بيد الفيل ليخرج من الغرفة حتى تتسع لنا جميعا.
كارولين كامل صحفية مصرية
التعليقات