عودة الصهيونى البغيض - عبد الله السناوي - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 11:24 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عودة الصهيونى البغيض

نشر فى : الأربعاء 29 يوليه 2020 - 6:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 29 يوليه 2020 - 6:50 م

كان ظهور الفيلسوف الفرنسى المثير للجدل «هنرى برنارد ليفى» فى الغرب الليبى داعيا للتساؤل عما وراء الزيارة، من رتبها، وبأية أهداف، وما قدر التناقضات داخل «حكومة الوفاق»، وإذا ما كانت تومئ إلى حسابات جديدة قد تطرأ على حافة حرب إقليمية محتملة.
يصف نفسه بـ«أبو الثورة الليبية»، وقد كان دوره جوهريا بجوار الرئيس الفرنسى الأسبق «نيكولا ساركوزى» فى التحريض على التدخل العسكرى لحلف «الناتو»، الذى أفضى إلى إسقاط نظام العقيد «معمر القذافى» والتمثيل بجثته قبل ترك البلاد لفوضى الميليشيات والاحترابات الأهلية المزمنة.
كلاهما، «ساركوزى» و«ليفى»، لا يلتزمان أية قيمة إنسانية، ولا تعنيهما قضية الثورات والانتفاضات التى تطلب الالتحاق بالعصر بتبنى القيم الديمقراطية، لكنهما وجدا فى الأزمة الليبية فرصة سانحة لتصفية حسابات تاريخية مع العقيد الليبى عن مجمل أعماله التى ناهضت المصالح الغربية فى محطات عديدة من حكمه.
كانت المفارقة فادحة بين الادعاءات الإنسانية والحقائق الدموية.
لم تكن هذه المرة الأولى التى يدعو فيها «ليفى» بتوجهاته الصهيونية المتشددة لـ«التدخل العسكرى» باسم حماية المدنيين، تبنى الموقف نفسه فى أزمة البوسنة والهرسك قاصدا إعادة الهيمنة الغربية على هذه المنطقة من العالم وتكييف مواقفها تاليا بعيدا عن العالم الإسلامى وقضاياه، وهو ما قد حدث فعلا إلى حدود بعيدة.
بالتكوين الفكرى، فهو ينتسب لمن يطلقون على أنفسهم فى فرنسا «الفلاسفة الجدد»، يعادى الاشتراكية بضراوة ويصفها بأنها «بربرية بوجه إنسانى».
التعبير مستوحى بالتناقض من شعار انتشر ستينيات القرن الماضى إبان احتجاجات تشيكوسلوفاكيا السابقة يدعو إلى «الاشتراكية بوجه إنسانى».
لم يفكر، كفيلسوف مفترض، فى مدى ما وصلت إليه الدولة الصهيونية، التى يتبنى مقولاتها الأكثر تشددا، من بربرية تخرج عن أية إنسانية بإنكار أية حقوق للفلسطينيين على أراضيهم المحتلة.
ولد فى الجزائر عام (1948)، لأسرة فرنسية تستوطنها، بنفس العام الذى تأسست فيه إسرائيل على أنقاض فلسطين التاريخية.
لم تؤثر فيه بالعمق تجربته الجزائرية على النحو الذى حدث مع مفكر وأديب فرنسى كـ«ألبير كامى» صاحب رواية «الطاعون»، ولا تبنى موقفا أخلاقيا يؤيد حق الجزائريين فى الاستقلال والحرية، كما فعل الفيلسوف الوجودى «جان بول سارتر».
بأية معايير إنسانية فهو فيلسوف عنصرى بغيض.
بدا أقرب إلى نظرة المستوطنين الفرنسيين، الذين أرادوا «فرنسة الجزائر»، كأن سكانها وأهلها دخلاء عليها.
النظرة نفسها تملكته بصورة أكثر توحشا فى الأراضى الفلسطينية المحتلة.
أيد اليمين الصهيونى فى كل خططه الاستيطانية، التى عصفت بأية حقوق تاريخية وقانونية دولية للفلسطينيين.
دعم إسرائيل فى كل حروبها ومشروعاتها التوسعية دون أن يتذكر مرة واحدة أية قيمة إنسانية.
باسم الدفاع عن الرؤية الإسرائيلية لمنظمة «اليونسكو» خاض عام (2009) حربا بلا هوادة ضد احتمال تولى المرشح المصرى «فاروق حسنى» منصب مديرها العام، على خلفية تصريحات منسوبة إليه دعت إلى «حرق الكتب الإسرائيلية»، إذا ما وجدت فى القاهرة.
لم يكن التصريح موفقا، فحرق الكتب، أية كتب، لا يمت بصلة لأى عمل ثقافى.
جرى الاعتذار عنه، لكنه استخدم للتشهير الدولى به حتى لا يصعد لقمة «اليونسكو» وزيرا استجاب للإرادة العامة للمثقفين المصريين فى رفض التطبيع مع إسرائيل.
جرت حملة ممنهجة ضده قادها وأشرف عليها «ليفى».
كان من أبرز محطاتها نشر إعلان فى صحيفة «اللوموند» الفرنسية وقع عليه مثقفون معرفون من مختلف أنحاء العالم.
باتصال هاتفى من باريس سألنى «فاروق حسنى» إذا ما كان ممكنا أن أتأكد بنفسى أن اتصالا جرى بين مكتب «ليفى» والروائى «علاء الأسوانى» للتوقيع على ذلك البيان باسم المثقفين المصريين.
قلت: «دون أن اتصل لا يمكن أن يفعلها، واستيضاح موقفه إهانة له».
جرى الاتصال به فعلا من مكتب «ليفى»، وكان رفضه كاملا، كما أبلغنى بعد سنوات.
كان تقديرى، بحكم معرفتى به، أن اعتراضاته بالغة الحدة على السياسات التى بتبناها وزير الثقافة المصرى لا يمكن أن تذهب به إلى الوقوف فى خندق «برنارد ليفى»، وهو ما ثبت صحته.
فى معركة «اليونسكو» ساند وزير الخارجية الفرنسى «برنارد كوشنير» موقف «ليفى»، تراجعت فرنسا عن تعهداتها السابقة التى قطعها على نفسه «نيكولا ساركوزى» وصوتت ضد المرشح المصرى الذى خسر السباق بفارق صوت واحد.
مرة أخرى عاد الثنائى، «ليفى» «وكوشنير» للظهور معا خريف (2017) فى «أربيل» لدعم انفصال كردستان العراق أثناء الاستفتاء عليه.
كانت تلك تزكية صهيونية معلنة، فكلاهما يتبنيان أيديولوجيتها، لتقسيم العراق إلى دويلات مذهبية وعرقية متطاحنة تخرجه للأبد من معادلات المنطقة وحسابات القوة فيها.
من موقعه المؤثر فى الحياة العامة الفرنسية لم يتردد «ليفى» فى تبنى ذات الموقف فى بلدان عربية أخرى، من بينها سوريا وليبيا والسودان والسعودية.
كانت «دارفور»، التى شهدت مآس إنسانية مروعة، إحدى الملفات التى دخل عليها، لا بهدف طلب العدالة والمساواة وحساب المتورطين بجرائم ضد الإنسانية، بل لتقسيم السودان وإضعافه فى لعبة إعادة هندسة المنطقة من جديد.
هو رجل متعدد الهويات المهنية، فيلسوف بلا أثر يلهم، وصحفى بلا قضية تتعدى حساباته العنصرية، وناشط سياسى يوظف مواقفه فى اتجاه واحد لا يتغير، إسرائيل وأمنها ومصالحها.
هويته الدينية ليست قضية بذاتها.
هناك صحفيون ومفكرون ينتسبون إلى الديانة اليهودية لكن مواقفهم الأخلاقية والسياسية تضعهم على مستوى آخر وصعيد مختلف، مثل المفكر الأمريكى الكبير «ناعوم تشوميسكى» بكتاباته ومواقفه الراديكالية، والصحفى الأمريكى الاستقصائى الأشهر «سيمور هيرش»، الذى كشف المشروع النووى الإسرائيلى وخطط الحرب على إيران، والصحفى الفرنسى الراحل «إريك رولو»، الذى دافع عن القضية الفلسطينية، اقترب من «جمال عبدالناصر» وصادق «ياسر عرفات».
لماذا يعود الآن الصهيونى البغيض؟
لا يعقل أنه قد جاء لمهمة صحفية تستقصى حقيقة المقابر الجماعية فى ترهونة؟
ولا يعقل أن ترتيبات الزيارة، التى حظت بحماية أمنية مشددة وتسهيلات كاملة لدخوله وخروجه بطائرة خاصة، جرت بغير إرادة «حكومة الوفاق»، إلا إذا كانت صراعاتها الداخلية قد استحكمت وتكاد أن تنفجر.
تبرؤ حكومة الوفاق من الزيارة، التى تولى وزير داخليتها القوى ترتيباتها، تعبير صريح عن عمق أزمتها الداخلية وقدر ما يمثله «ليفى» من قبح سياسى ينال من أى موقف وكل قضية.
بالنظر إلى خلفياته وأدواره فى السراديب المعتمة، فإن عودته إلى المسرح الليبى تكشف أين تقف إسرائيل فى الصراع الدائر، الذى ربما تفلت حساباته إلى حرب إقليمية مباشرة بين مصر وتركيا، إذا ما جرى تجاوز خط سرت الجفرة.
باليقين فإنها ليست مع مصر.
رغم معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، والعلاقات الرسمية الممتدة بلا توترات كبيرة، تدرك إسرائيل أن مصر القوية خطر وجودى عليها وأن إضعافها وإنهاكها توجه ثابت.
رغم التوترات الإعلامية التركية الإسرائيلية من حين لآخر، إلا أن العلاقات العسكرية والسياحية والتجارية شبه مستقرة.
تحت سطح الزيارة هناك إشارات ورسائل وألعاب استخبارات لم تتكشف حقائقها حتى الآن، ولا مدى ضلوع أطراف دولية وإقليمية فى ترتيبها.
إذا ما ثبت أن القوات الأمريكية المتمركزة حول ليبيا «افريكوم»، التى دأبت على الحوار مع وزير داخلية الوفاق «فتحى باشاغا» سهلت المهمة ورتبت لها، فإننا أمام انقلابات محتملة فى المشهد الليبى داخل حكومة الوفاق.
هذه فرضية أولى.
وإذا ما ثبت أن الزيارة بأهدافها وترتيباتها جرت من خلف قصر «الإليزيه» والاستخبارات الفرنسية فإننا أمام أزمة قد تتفاقم بين حلفاء مفترضين.
هذه فرضية ثانية.
وإذا ما ثبت تورط الاستخبارات التركية فى الترتيب للزيارة، فإنه استدعاء مفتوح لدور إسرائيلى للضغط على الإدارة الأمريكية المقبلة لتوفير غطاء سياسى واستراتيجى للمغامرات التركية فى شرق المتوسط وداخل ليبيا.
هذه فرضية ثالثة.
بكل الحسابات والفرضيات فإن عودة الصهيونى البغيض تؤشر على شىء ما جديد فى الأزمة الليبية يرتب فى الظلام.