فى ذكرى عبدالناصر.. تأملات فى مقولات رائجة - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 10:20 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

فى ذكرى عبدالناصر.. تأملات فى مقولات رائجة

نشر فى : الإثنين 29 سبتمبر 2014 - 8:45 ص | آخر تحديث : الإثنين 29 سبتمبر 2014 - 8:45 ص

يروى السيد محمد فايق أنه عندما اتصل بعبدالناصر مستأذنا لوفد من ثوريى أمريكا اللاتينية فى مقابلته باعتبارهم يعتنقون الناصرية، انزعج أيما انزعاج واستنكر أن يضم اسمه إلى قائمة تقوم على شخصنة الفكر، كالماركسية. ولكن توالى الأحداث بعده، جعل للناصرية مغزى هاما، لأنها أصبحت الحائط المنيع الذى يقى ثورة 23 يوليو 1952 من أن يفسرها كل حاكم يتولى الحكم تحت رايتها وفق «مزاجه»، كما قال وفعل أنور السادات، حينما نصّب نفسه كبيرا للعائلة بدوره المقرر فى قاموس أخلاق القرية. لكن التسمية تحولت إلى معضلة عندما ارتدى البعض قميص عبدالناصر (على حد قول السادات أيضا) ليلصقوا بها دعاوى أبعد ما تكون عن أفكار الزعيم الراحل وعن الثورة ذاتها. والأخطر من ذلك أن هذا أدى إلى صراعات بين فئات يريد كل منها أن يصبح زعيما بالوراثة. والأنكى من ذلك أن جهات تصدى لها عبدالناصر فى كفاحه ضد الاستعمار والذود عن وطنه وعن دول وقعت فريسة له وسعيه إلى ضم صفوفها لتكتسب صلابة فى مواجهته، رددت أخيرا أنها لن تسمح بأن يظهر فى مصر عبدالناصر آخر. هذه المقولات بحاجة إلى التمعن فى جوهر ما يمكن أن يطلق عليه مشروع نهضوى يواكب حركة الحضارة العالمية المتسارعة الوتيرة بالاعتماد (الجماعي) على النفس.

•••

ولعل أهم ما يلفت النظر دعاوى تردد فى الأدبيات المصرية خاصة والعربية العامة، أن مصر شهدت خلال القرنين الأخيرين مشروعين نهضويين، ينسب أحدهما لألبانى هو محمد على باشا والآخر لمصرى هو جمال عبدالناصر. وربما كان الداعى إلى اقتران الاسمين هو أن كلا منهما حاول ونجح فى كسر التخلف الذى فرضته قوى مهيمنة على مصائر الشعوب والأمم. غير أن قليلا من التأمل يظهر الفارق الهائل بين الغاية النهائية لكل منهما: فالأول حاول أن يحارب الاستعمار بالاقتداء بمنهجه وحاول أن يكون منافسا له، والثانى سعى إلى القضاء عليه وتحقيق الكرامة الإنسانية لشعبه وأمته وشعوب أخرى تشاركه محنته. كلاهما وصل إلى سدة الحكم عقب ثورة شعبية مع الفارق المتمثل فى أن الثوار المصريين الذين أرادوا طرد الفرنجة فى ختام القرن الثامن عشر وهبوا مقاليد الحكم إلى من توهموا فيه القدرة على التخلص من الاستعمار الفرنسى والعودة إلى الخلافة العثمانية التى كانت صيغة مشوهة للاستعمار، بينما أراد ثوار 1952 التخلص من الاستعمار البريطانى وأعوانه ممن استغلوا القضية لينهبوا ثروات الشعب ويسخرونه لخدمة مصالحهم. وفى الحالة الأولى تصدت قوى الاستعمار للمنافس الجديد، بهدف استبقاء الإمبراطورية العثمانية التى نأت بولاياتها عن مسايرة الحضارة، وأغدقت على رعاياهم بامتيازات لم تتخلص منها مصر إلا فى 1937 عقب «معاهدة الشرف والاستقلال».

وحينما انهار مشروع محمد على الاستعمارى، تراجعت بشدة القفزات التى أحدثها فى الدولة المصرية لأنها لم تكن أصلا موجهة لشعبها، بل لإعداده لخدمة مشروعه الشخصى. وكان مكسبه الوحيد هو تمكين الأسرة العلوية من وراثة حكم شعب لا حول له ولا طول؛ من بين أعضائها من بادر إلى إغلاق المدارس، ومنهم من أراد جعل مصر قطعة من أوروبا ليعلو شأنه هو، ومنهم من رضى من الغنيمة بسلامة العرش، وهى العبارة التى رددها فؤاد الأول رافضا لمقترحات سعد زغلول لتحقيق استقلال بدا بعيد المنال، ليرد عليه «إن الأهم أن يظل العرش بخير»، فلم يملك سعد إلا أن بقول: «بئست أمة أنت ملك عليها».

•••

طبيعى ألا يستطيع شخص بمفرده أن يقود شئون دولة، إذ لابد من أعوان يؤازرونه ونظام يثبته على رأس الدولة. وهنا يتبادر إلى ذهننا عبارة تتردد حتى الآن حول المقارنة بين «أهل الثقة وأهل الخبرة». فعندما تولى محمد على حكم مصر، كانت مهمة الوالى الذى يعينه الخليفة تحصيل الخراج والجزية لحسابه خلال فترة ولايته التى كان الخليفة يحرص على ألا تطول حتى لا يطمع فى الانفراد بالحكم، بينما يشاركه المماليك فى نهب أموال الشعب الذى كان يردد «إيش تاخد من تفليسى يا برديسى». وبدأ محمد على بمذبحة القلعة ليستولى على أراضيهم، فى الوقت الذى أقام فيه مشاريع توسع زراعى لزيادة الموارد المحلية، فى مقدمتها القناطر الخيرية، ليدبر من خلال إيراداتها تكاليف حملاته العسكرية. ومع أن الأزهر الشريف كان منارة للعلوم الإسلامية، فإن البلاد خلت من مراكز للعلوم المدنية اللازمة لإدارة دولة حديثة والدخول فى أنشطة صناعية متطورة لابد منها لتزويد جيوشه بالأسلحة التى تمكنه من مواصلة حملاته، وتبنى وترمم الأسطول الذى تتنقل به قواته المحاربة. ومن أجل هذا أنشأ الترسانة الشهيرة، وتحرك فى مسارين: الأول إيفاد البعثات إلى أوروبا لتلقى العلوم الحديثة، وتحصيل خبرة تمكّنهم من أن يعينوه على تحقيق طموحاته؛ والثانى شراء أهل الثقة بإقطاعيات تجعلهم بمثابة الحزب الحاكم الذى يتحكم فى مصائر عامة الشعب وتطويعهم لأمره. وأقيمت مدارس لتخريج كتبة يعملون فى دواوين حكومية حديثة النشأة، فكان لقب الباشكاتب يعبر عن مكانة رفيعة، وكانوا نواة لنشأة طبقة متوسطة نافست المشايخ فى الجاه. وعزز البريطانيون هذا النوع من التعليم فى فترة الاحتلال، لتصبح تلك الدواوين مقصدا للرزق المضمون وإن كان ذا سقف لا يتعداه. ومع سقوط مشروعه فقدت الإصلاحات الداخلية أهميتها، لأنها لم تكن لخدمة الشعب، ولا بمساندته. واكتفى بحصر وراثة الحكم فى الأسرة العلوية، يحكم كل وارث وفق هواه.

وعندما قامت ثورة يوليو حرص عبدالناصر على الجمع بين ثورتين: سياسية تواصل مسعى ثورة 1919 لإنجاز الاستقلال، والثانية اجتماعية تواصل ثورة عرابى الذى ثار على وريثٍ لمحمد على اعتبر الشعب والجيش «عبيد إحساناتنا». وأعلن منذ البداية أن الثورة تسعى إلى تحقيق «نهضة بشرية». مستبقا دعوة الأمم فى التسعينات إلى التنمية البشرية تكون التنمية الاقتصادية بضمنها. وكان الإصلاح الزراعى من أهم أدوات إنهاء استعباد الغالبية الساحقة من المصريين وإشعارهم بآدميتهم، وإنهاء النظام البرلمانى المزيف القائم على استيلاء الأعيان على الثروة الاقتصادية والأصوات الانتخابية معا، استباقا لما أطلق عليه مؤخرا «زواج السلطة بالمال» ضمن منظومة حزبية كاريكاتورية.

•••

وبحكم أن التطور الاجتماعى يحتاج إلى زمن أطول كثيرا من التطورين السياسى والاقتصادى، كان من الضرورى الانطلاق مباشرة إلى تعامل جاد مع الثلاثية التى كانت تردد فى كل خطبة عرش: «وستعمل حكومتى على القضاء على الفقر والجهل والمرض». فأقامت الثورة مجلسا للخدمات وعممت المجانية فى التعليم مصداقا لمقولة طه حسين «التعليم كالماء والهواء»، وأقامت «المجلس الدائم لتنمية الإنتاج القومي» فى أكتوبر 1952 ليحل محل المجلس الاستشارى الاقتصادى الأعلى الذى سبقه بعامين وظل بدون فاعلية. ونادى عبدالناصر بتذويب الفوارق بين الطبقات، وليس القضاء على طبقة لحساب أخرى، تمكينا لقوى الشعب العاملة من المشاركة الفعالة فى تسيير دفة الحكم. ودعم الحركة التعاونية لتعزيز أواصر العلاقات بين الأفراد فى الإنتاج والاستهلاك. وكانت صيحته: «ارفع رأسك يا أخى فقد مضى عهد الاستعباد».

طالب المصريين بأن يرفعوا أبصارهم إلى أعلى.. لا استجداء لصدقة من ولى النعم، بل افتخارا بدولة أعادوها إلى موضعها الصحيح فى مقدمة سفينة الحضارة».

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات