بهاء طاهر أنيق الروح والإبداع والإنسانية - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 9:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بهاء طاهر أنيق الروح والإبداع والإنسانية

نشر فى : السبت 29 أكتوبر 2022 - 8:40 م | آخر تحديث : السبت 29 أكتوبر 2022 - 8:40 م
ــ 1 ــ
بهاء طاهر بالنسبة لى ليس مجرد اسم كبير فى عالم الرواية، ولا وجه بشوش مسالم لا يحمل ضغينة لأحد، ولا يسعى للعراك مع أحد.. بهاء طاهر دائمًا ما اقترن اسمه وحضوره لدى بلحظات تحول فاصلة ومدهشة فى حياتى.. فأول حوار كبير أجريته فى مسيرتى الصحفية، ونشر لى على ثلاث صفحات كاملة فى مجلة (أكتوبر) قبل ما يقرب من ربع القرن، كان معه، وأول مقال يُنشر لى فى جريدة (التحرير) وعليه صورتى كان عنه، وقبلها كنت سجلتُ لأطروحتى للماجستير عن أعماله الروائية.
أول ما قرأت له كانت «خالتى صفية والدير»، ولم تكن استجابتى لها عالية فى ذلك الوقت (منتصف التسعينيات تقريبا إذا لم تخنى الذاكرة)، ثم قرأت «الحب فى المنفى»، وكل ما أتذكره أن جملة المرحوم على الراعى التى أطلقها عن الرواية «رواية كاملة الأوصاف» ما زالت ترن فى أذنى بلا زيادة ولا نقصان. ثم قرأت مقالا كتبه الناقد الكبير شكرى عياد فى مجلة الهلال بعنوان «نمط جديد من الواقعية الجديدة» جعلنى أعيد قراءة الرواية بعين جديدة ورؤية أعمق فكانت المتعة التى لا تدانيها متعة أخرى.

ــ 2 ــ
وكان اللقاء الأول المباشر وأنا طالب فى الفرقة الثالثة بكلية الآداب، عندما دعاه أستاذى الناقد الجليل سيد البحراوى (رحمه الله وأسكنه فسيح جناته) إلى محاضرة لطلاب الفرقة الرابعة لمناقشته فى الرواية. كنت الطالب الوحيد من الفرقة الثالثة الذى حضر هذا اللقاء مستعدا له بورقة (كنت أسميها بحثا فى ذلك الحين) عن الراوى فى الحب فى المنفى (ستتطور بعد سنوات طويلة لتصبح نواة أطروحتى للماجستير عن بهاء طاهر)، وكان ترتيبى الثالث بين المتحدثين من الطلاب. وعقب المحاضرة تحلقنا حول الرجل نسأله ونشاغبه وكانت عيناه تلتمعان بفرح ومحبة حقيقية وأمل فى المستقبل.. عندما ذهبت إليه بنسختى من «الحب فى المنفى» كتب: «إلى إيهاب الملاح.. أملًا وثقة فى مستقبل زاهر».
بعد ثمانية أعوام من هذا اللقاء سألتقى بهاء طاهر مجددًا، فى مكتبة ديوان الزمالك، لأناقشه فى بعض النقاط المتعلقة بخطتى للماجستير وعنوانها «تعدد الأصوات فى روايات بهاء طاهر»، بإشراف صديقى وأستاذى الجليل الدكتور حسين حمودة. أذكر أنه أبدى إعجابه الشديد بمخطط الفصل المخصص لتحليل لغة الروايات، قائلا إنه مسَّ بعض الأفكار التى يراها «جديدة» و«طازجة».
نجح بهاء طاهر بأعماله ومواقفه الإنسانية الصادقة أن يكرس نموذج «المبدع النبيل»، الباحث عن اللحن الخافت الحزين للواقع المصرى وروحه العميقة، ظل عمره كله يبحث عن سر هذا اللحن ويطارده ونجح فى اقتناصه من خلال ما جادت به قريحته الإبداعية من روايات وقصص قصيرة ومقالات وقراءات فى أعمال إبداعية، صاغت فى مجملها تاريخًا مشرفًا وباهرًا لصاحبها، فى الوقت الذى تلقفها فيه الجمهور والنقاد على السواء بكل الرضا والمحبة والقبول.

ــ 3 ــ
بهاء طاهر رجل موقف بكل معنى الكلمة، مواقفه لا تتبدل أو تتلون، بحسب أنواع المكاسب أو الفرص، فهو «ناصرى» بالمعنى الذى يجعله يؤمن بضرورة العدل الاجتماعى، والوحدة القومية ويضيف إلى ذلك إيمانه الحقيقى بالحرية فى كل مجالاتها الاجتماعية والسياسية والفكرية والإبداعية، ورواياته تعكس العناصر الثابتة فى مواقفه التى هى أساس رؤيته للعالم، إبداعيا، ابتداء من مجموعاته القصصية الأولى «الخطوبة» إلى روايته الأخيرة «واحة الغروب».
وهو من أعمق أبناء جيله وعيا، ومن أكثرهم ثقافة، تشهد على ذلك كتبه (على قلتها) ومنها كتابه الرائع عن أبناء رفاعة «الثقافة والحرية» (1993)، ومقالاته التى جمعها فى كتابٍ آخر «راح اسمه من ذاكرتى»، فى ما عدا ما نشره بعنوان «البرامج الثقافية فى الإذاعة» (1975) و«عشر مسرحيات مصرية ــ عرض ونقد» (1985) وأخيرا «فى مديح الرواية» (2004).
وأضف إلى ذلك ترجماته، فهو أول من قدم كويلو الروائى البرازيلى إلى القارئ العربى، وسبق إلى اكتشاف العمل الذى ترجمه بعنوان «السيميائى.. ساحر الصحراء» (1996) وكان ترجم من قبل مسرحية «فاصل غريب» للكاتب الأمريكى يوچين أونيل (1970). وهو، إلى جانب ترجماته، نهم فى اطلاعه على آداب العالم، تساعده على ذلك معرفته بالإنجليزية والفرنسية على الأقل، فقد عمل فترة غير قصيرة فى مقر الأمم المتحدة فى جنيف التى كتب فيها بعض رواياته من مثل «أنا الملك جئت» و«قالت ضحى» و«الحب فى المنفى».

ــ 4 ــ
أذكر أنه فى كلمته التى ألقاها على الحضور بمناسبة فوزه يجائزة ملتقى الرواية العربية فى 2016، وجه بهاء طاهر الشكر إلى الملتقى، وإلى اللجنة، مؤكدًا فى الوقت ذاته على ضرورة تخصيص الجائزة فى ما هو قادم من دورات إلى الكتاب الشباب، داعيًا إلى اقتسامها بين أحد شيوخ الكتابة الكبار وبين أحد وجوهها الشابة البارزة، هذا هو بهاء طاهر، بنبله المعروف، ووعيه بحركة الزمن وحماسته الصادقة للأجيال الجديدة، وما تنتجه من أدب مختلف.
هذا هو بهاء طاهر المتسامح المتصالح مع ذاته المدرك لصيرورة التطور والتجدد، لا يحمل ضغينة لأحد ولا يكترث للمهاترات ولا يتوقف عند الإساءات التى تصدر من بعض المخبولين الذين يعتقدون بل يتوهمون أن وجودهم وتحققهم مقترن بالإساءة والتحقير والتهجم على منجز من سبقوهم من الأجيال الأكبر.
رحم الله بهاء طاهر.. الكاتب النبيل، والإنسان الوديع المسالم المتصالح مع ذاته، ومع العالم ومع الدنيا كلها. ورغم سلمه ومسامحته ونفوره التام من العراك والصخب والضجيج، فإنه كان رحمه الله قويا وصلبا وحاسما ولا يقبل أنصاف الحلول فى هموم وطنه ومصالحه والدفاع عنه، فضلا على قناعاته الإنسانية والفكرية..
رحم الله بهاء طاهر المثقف رفيع الثقافة المؤمن بقيم الحضارة الرفيعة، والقيم الإنسانية العالية، والمناضل والمقاوم بإبداعه الحر الجميل.