يأسرنى حى الجمالية. أختلق الأسباب لكى أذهب إليه. تقودنى أقدامى فى كل مرة إلى مكان مختلف لكى أعيد اكتشافه. أتفهم نجيب محفوظ تماما حين يتحدث عن علاقته به حتى بعد أن سكن خارجه، خاصة عند قوله: «إنك تخرج منه لتعود إليه، كأن هناك خيوطا غير مرئية تشدك نحوه (...)، تفوح منه رائحة التاريخ لتملأ أنفك وتظل تستنشقها من دون ملل»، فهو قلب المدينة التى أنشأها القائد جوهر الصقلى سنة 969م، ثم جاء الخليفة المعز لدين الله الفاطمى وجعلها عاصمة لدولته وأطلق عليها اسم القاهرة بعد أربع سنوات من تأسيسها.
أحلم بأن أعيش فى شبه عزلة فى أحد أزقتها.. زقاق يضج بحياته الخاصة كذلك الذى وصفه محفوظ فى رواياته، «حياة تتصل فى أعماقها بجذور الحياة الشاملة وتحتفظ – إلى ذلك - بقدر من أسرار العالم المنطوى. (...) ينتهى سريعا - كما انتهى مجده الغابر - ببيتين متلاصقين يتكون كلاهما من طوابق ثلاثة». أتلصص على حياة هؤلاء الذين سبقونى إلى الحى، فقد أقام فيه الحافظ الكبير ابن حجر العسقلانى وتلميذه شمس الدين السخاوى وابن خلدون والمقريزى وحافظ إبراهيم وبيرم التونسى وزكريا أحمد وبالطبع نجيب محفوظ وجمال الغيطانى وغيرهم كثر من الملوك والسلاطين والأمراء والصناع المهرة والعلماء.
• • ينسبه الناس بشكل تلقائى إلى الوزير الفاطمى القوى بدر الدين الجمالى على اعتبار أنه حقق ثورة عمرانية شملت نقل باب النصر إلى موضعه الحالى مع تأسيس بوابة جديدة له فى خضم توسعة المدينة، لكن فى واقع الأمر ظلت هذه المنطقة محتفظة باسمها القديم فى عهده ألا وهو «رحبة باب العيد»، فهى بالأساس ميدان فسيح خارج قصر الخلافة الفاطمية، كان الحاكم يخرج من باب العيد صوب هذه الرحبة، متجها إلى باب النصر، لأداء صلاة عيدى الفطر والأضحى. وظلت هذه التسمية مستخدمة تقريبا منذ تأسيس القاهرة حتى بعد وفاة المؤرخ المقريزى عام 1442م، ولم تعرف باسم الجمالية إلا قرب نهاية الدولة المملوكية وبشكل مؤكد فى العصر العثمانى. رغم شهرة الحى الأسطورية إلا أن أصل تسميته يكتنفه الغموض والكثير من المعلومات المغلوطة، فأغلب الظن أن اسمه يرجع إلى جمال الدين يوسف الأستادار، أحد أبرز رجال عصره فى زمن السلطان الناصر فرج بن الظاهر برقوق الذى حكم من 1399 إلى 1412. وكلمة «الأستادار» أصلها فارسى وتتكون من مقطعين «استد» بمعنى الأخذ و«دار» أى ممسك، وقد أضغمت الكلمتان لتدلان على لقب «المتولى للأخذ» أو من يتولى جمع المال، إذ راكم جمال الدين الأستادار عدة وظائف إدارية عليا فى دولة المماليك الجراكسة، يقوم شاغلها برعاية أمر البيوت السلطانية من المطابخ إلى احتياجات الحاشية وتولى النفقات والتصرف التام فيها، وأضاف إلى صلاحيات وظيفته ما كان يقوم به الوزير والناظر الخاص حتى قيل عنه إنه «عزيز مصر».
• • • شخصية أخرى مركبة نكتشفها لأننا طرقنا باب الجمالية، إذ شيد الأستادار مدرسته فى قلب «رحبة باب العيد»، فى منطقة سحرية على الطريق المؤدية إلى باب النصر، مدخل المدينة الرئيسى لكل القادمين من بلاد الشام. وكان طبيعيا أن تمنح مدرسته اسمها تدريجيا لكل ما حولها نظرا لفخامتها واعتمادها المذاهب الفقهية الأربعة، وصارت من أهم معالم المكان ليومنا هذا وقد تم ترميمها بعد تضررها من زلزال 1992.
يوضح لنا المقريزى وابن حجر العسقلانى بعض مظاهر تدخلات جمال الدين الأستادار فى منطقة «رحبة باب العيد» بشكل غير من عمرانها حتى صارت تنسب إليه بعد ذلك، خاصة أنه لجأ إلى التلاعب فى الأوقاف واستولى على ممتلكات وقصور سابقة لعصره، وقد قيل عنه أيضا إنه اكتسب ثروته ونفوذه من خلال العثور على كنوز فاطمية ما ساهم فى صعوده السياسى، ثم نهب أموال الأوقاف بمساعدة قاضى حلب المنفى - كمال الدين عمر بن العديم - الذى ولاه منصب قاضى قضاة الحنفية وتحالف معه لتحقيق مآربه، وقد ذاع وقتها أن كليهما حلبى الأصل، إذ تحدد بعض المراجع التاريخية أنه ولد فى مدينة البيرة (بفلسطين) لأب كان يعمل واعظا، لكنه خلع زى رجال الدين لينخرط فى وظائف إدارية، رحل إلى حلب ومنها إلى القاهرة حتى أصبح أثره فى السلطنة كبيرا وتولى دواوينها الثلاثة.
وصف المقريزى مظاهر بذخ المدرسة «الجمالية» وظروف بنائها بين عامى 1407 و1408م، وورد فى كتاب «المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار» للمقريزى، تحديدا فى الجزء الخاص بذكر المدارس، ما يلى: «هذه المدرسة برحبة باب العيد من القاهرة كان موضعها قيسارية يعلوها طباق كلها وقف، فأخذها وهدمها وابتدأ بشق الأساس فى يوم السبت خامس جمادى الأولى سنة عشر وثمانمائة وجمع لها الآلات من الأحجار والأخشاب والرخام وغير ذلك». استولى على أبواب وشبابيك من الذهب والنحاس والفضة كانت تزين مدرسة الملك الأشرف شعبان بن حسين بن محمد بن قلاوون واشترى الكتب والمصاحف وبعض المقتنيات القديمة بمبلغ ستمائة دينار فى حين كانت قيمتها عشرات أمثال ذلك ونقلها إلى داره، وجعل العمال تشتغل بأبخس الأجور. كما لجأ لبعض الحيل للاستيلاء على الأوقاف، فكان يرسل مجموعة من «الفعلة إلى المكان الموقوف المراد الاستيلاء عليه فيعملون فى الليل على إفساد أساسه إلى أن يكاد يتهدم»، ثم يبعث إلى السكان بمن يحذرهم من خطورة الوضع الذى قد يفضى إلى موتهم، حتى يتم الهدم وتحقيق مراده، فأموال الأوقاف أغرت الكثيرين بنهبها عبر العصور نظرا لضخامة الثروات المتراكمة من زمن الزمن، وتقدر حاليا قيمتها بنحو تريليون و37 مليار جنيه مصرى، وتضم خريطة الأوقاف فى عموم مصر نحو 114 ألف وقف..
كان هناك دوما من يحاول أن يعبث بها وينتهك حرمتها مثلما فعل الأستادار «صاحب الجمالية» الذى ساءت عاقبته، فقد تم قتله على يد السلطان الناصر فرج بن برقوق شر قتلة واستصدر هذا الأخير فتوى بالاستيلاء على المدرسة وتغيير اسمها بعد أن صادر كل أمواله، لكن نظرا لأن هذه الفترة كانت تشوبها الفتن والمؤامرات فقد نجح انقلاب مملوكى وتولى السلطة المؤيد شيخ المحمودى الذى سمح للورثة باستعادتها. ورجع اسمها المدرسة الجمالية، بحارة التمبكشية التى تبدأ من جهة شارع المعز عند سبيل الأمير كتخدا.