بقدر مرارة التجربة الإنسانية لأجيال متعاقبة من الفلسطينيين، الذين عانوا التهجير القسرى وقسوة الحياة فى المخيمات والشتات، استقرت إرادة التمسك بالأرض عند الأجيال الجديدة، مهما كانت التضحيات.
فى المواجهات الأخيرة، التى شملت فلسطين التاريخية بكامل جغرافيتها ومكوناتها لأول مرة منذ نكبة (1948)، بدت القدس عنوانا أول لأية صدامات حدثت، أو محتملة.
برزت فى المشهد المقدسى إرادتان على طرفى نقيض، إحداهما تطلب التوسع فى الاستيطان وطرد السكان العرب من منازلهم بالبلدة القديمة، والأخرى تقاوم عنجهية القوة بكل ما تملك من طاقة مقاومة وقدرة إبداع لوسائل الاحتجاج السلمى حتى لا تنزع من فوق أراضيها وتهود المدينة بالكامل ويصبح هدم المسجد الأقصى مسألة وقت.
القضية الفلسطينية لا يمكن تلخيصها فى مدينة القدس وحدها، غير أن للمدينة المقدسة سطوتها الرمزية الدينية والتاريخية، التى لا يمكن بأى حساب تجاهلها، أو غض الطرف عنها، حيث تتعلق بها مشاعر واعتقادات دينية حول المسجد الأقصى وكنيسة القيامة.
حرية العقيدة وحرمة دور العبادة سؤال ضاغط وملح على الضمير الإنسانى المعاصر وقيمه، التى ترفض المس بها والعدوان عليها.
إذا ما جرى، بالتحرشات المنهجية لجماعات المستوطنين والحفائر المتواصلة أسفل المسجد الأقصى النيل منه، فإننا باليقين داخلون إلى حرب دينية مروعة تمتد إلى العالم بأسره.
وقف اقتحامات المسجد الأقصى ليست مسئولية المقدسيين وحدهم، ولا الفلسطينيين كلهم، ولا العالمين العربى والإسلامى مجتمعين، هذه قضية إنسانية تتصل بمبادئ احترام دور العبادة والتعايش بين أصحاب الديانات المختلفة.
ثم إن هذه قضية سياسية وأمنية واستراتيجية لها أولوياتها بالنظر إلى التطورات الجارية فى المدينة المقدسة، فإذا ما تواصلت الاقتحامات مدعومة من قوات الأمن الإسرائيلى فإن «الهدنة» التى جرى التوصل إليها بين إسرائيل والفصائل المسلحة الفلسطينية فى غزة سوف تتقوض بأسرع من أى توقع وتتبدد أحاديث السلام المنتظر!
ربما لهذا السبب حذر وزير الخارجية الأمريكى «أنتونى بلينكن»، وهو يغادر المنطقة بعد جولة مباحثات شملت إسرائيل والسلطة الفلسطينية ومصر والأردن، من أن مضى الدولة العبرية فى إجراءاتها بحى «الشيخ جراح» يمكن أن يفجّر الموقف من جديد.
لم يكن ذلك انحيازا لأهالى الحى المقدسى بقدر ما كان إدراكا لمغبة التصعيد المنهجى فى الأزمة التى أفضت تداعياتها إلى اتساع نطاق المواجهات إلى خلف الخط الأخضر فى أوسع عملية احتجاج قام بها فلسطينيو الداخل منذ نكبة (1948)، ومن الاحتجاجات السلمية إلى اشتباكات السلاح على مدى أحد عشر يوما، ضربت خلالها البنية التحتية وهدمت الأبراج والبنايات فى غزة وتألمت تل أبيب وعسقلان واللد كما لم يحدث من قبل.
بأية قراءة موضوعية فإن المدينة المقدسة ــ عند المسجد الأقصى وفى محيطه ــ كانت «نقطة التفجير»، حين جرت اقتحامات للمسجد ومحاولات لإخلاء حى «الشيخ جراح» من سكانه العرب، قبل أن تجرى محاولة تكرار التجربة نفسها فى حى «سلوان».
بلهجة غير مسبوقة أو معتادة فى الخطاب الغربى الرسمى انتقد وزير الخارجية الفرنسى «جان إيف لودريان» ما يحدث من سياسات وإجراءات: «إن إسرائيل فى طريقها لتصبح دولة فصل عنصرى».
كان تلك الصياغة تعبيرا عن نوع من الضجر من السياسات الإسرائيلية فى المدينة المقدسة وعدم إدراكها لخطورة تفجير الموقف، الذى حذر منه الوزير الأمريكى.
بدت أقرب إلى محاولة إنقاذ إسرائيل من نفسها، فقد أكد الوزير الفرنسى بالتصريح نفسه على ما أسماه «حفظ الأمن الإسرائيلى» وحق الدولة العبرية فى الدفاع عن نفسها، دون عناية تذكر بالضحية الفلسطينية.
رغم ذلك فقد ثارت أزمة دبلوماسية على خلفية التصريحات الفرنسية حين استدعى السفير الفرنسى فى تل أبيب لوزارة الخارجية الإسرائيلية للاحتجاج عليها، ودخل رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو طرفا مباشرا فى المساجلات المتبادلة».
بقوة الصور حدثت خلخلة غير مسبوقة فى مستويات التضامن الغربية التقليدية مع إسرائيل، وصلت إلى مراكز صناعة القرار فى الولايات المتحدة نفسها.
لم يكن هناك من هو مستعد لتسويغ التهجير القسرى فى حى «الشيخ جراح» واستمرار عمليات اقتحام المسجد الأقصى خشية انفلات الحوادث عن أى قيد، فتدخل المنطقة إلى حرب إقليمية واسعة لا يريدها أحد.
باليقين هناك اعتبارات أخلاقية وإنسانية ماثلة فى المشهد، غير أن الحسابات الاستراتيجية والسياسية لها الكلمة الأولى.
فيما هو أخلاقى وإنسانى تأثرت موجة التعاطف الدولى مع القضية الفلسطينية بتجربة «حركة حياة السود مهمة»، التى سادت الولايات المتحدة ومدن أوروبية عديدة، عقب مقتل الأمريكى الأسود «جورج فلويد» على يد شرطى أبيض دون أن يمنح فرصة تنفس.
تردد فى الفضاء العام إن «حياة الفلسطينيين مهمة».
لم يكن ذلك تعاطفا مع فصيل بعينه ولا مع سلطة بذاتها، إنه التعاطف الإنسانى مع القضية الفلسطينية أكثر القضايا المعاصرة عدلا.
الناس تتعاطف مع القضايا الكبرى عندما تعرض عليها الحقائق بلا وسطاء وتتكفل صور المعاناة بنقل الحقيقة بلا رتوش.
كان ما جرى فى «الشيخ جراح» استكمالا، لم يكتب له أن ينجح حتى الآن بمقاومة الفلسطينيين وضغوط الرأى العام العالمى، لمشروع الاستيطان فى المدينة المقدسة يمثل هدم المسجد الأقصى ذروته.
إذا استعرت تعبيرا للأستاذ «محمد حسنين هيكل» ذات حوار بيننا عام (2007)، ضمنه رسالة نشرتها فى حينه إلى حماة المسجد الأقصى، الذين يقاومون بالصدور العارية محاولات هدمه بالحفائر تحته، فإنه «قداسة التاريخ وتاريخ القداسة».
بلاغة التعبير تكتسب صدقيتها من مشاعر مئات الملايين، التى تتعلق قلوبها بالمدينة المقدسة.
ذات حوار آخر عند منتصف تسعينيات القرن الماضى أوقف البابا «شنودة الثالث» جهاز التسجيل: «حاشا لله أن يحدث ذلك، لكن لو افترضنا أنه قد جرى قصف المسجد الأقصى وقيل إن مجنونا فعلها، فما الذى يمكن أن يفعله العالم العربى والإسلامى أكثر من بيانات الشجب والإدانة وبعض التظاهرات الغاضبة؟!».
لم تكن هناك إجابة على سؤال أقلق وقتها الرجل، الذى أطلقت عليه «البابا العربى»، غير أن المؤكد أن لا شىء سوف يبقى على حاله فى الإقليم كله ولا حجر فوق حجر.
ما هو دينى وروحى يرافق ما هو سياسى واستراتيجى فى أية إجابات على أسئلة المدينة المقدسة وما قد تندفع إليه الحوادث فى مقبل الأيام.