توالت علينا أخبار القتل والحرق والتخريب حتى حولت الحلم الجميل الذى استغرقنا فيه لعدة أسابيع بعد 25 يناير 2011، إلى كابوس مزعج نتمنى فى كل يوم أن نرى نهايته، دون أن تبدو له نهاية.

ولكن من المؤكد ان لهذا الكابوس (كما لأى كابوس) نهاية. وبعد أن ينتهى يمكن ان نصبح فى حالة تسمح لنا بتأمل ما حدث منذ 25 يناير، ونعيد التفكير فيه لاستخلاص مغزاه الحقيقى. قد يتطلب استخلاص المغزى الحقيقى زمنا أطول مما نظن، إذ يحتاج المؤرخون عادة إلى مرور سنوات كثيرة بعد وقوع الحادث حتى يفسروه التفسير الصحيح. وقد قرأت مؤخرا قولا ينسب إلى رجل حكيم صينى، سئل عن رأيه فيما حدث فى الثورة الفرنسية التى وقعت فى 1798، فأجاب بعد ان انقضى عليها أكثر من قرنين بأنه ما زال الوقت مبكرا لإصدار الحكم الصحيح عليها!

ولدينا تجارب تؤيد ضرورة التريث (وان لم يكن بالضرورة بالدرجة التى ذهب إليها الحكيم الصينى). ففى الشهور والسنوات التالية مباشرة للثورة الفرنسية، كان التفاؤل شديدا بأنها ستدشن عصرا جديدا من المساواة بين البشر، وبانتصار الديمقراطية على الاستبداد إلى الآن، بل وبقدرة الإنسان على تحقيق الفردوس على هذه الأرض، بالحكم الديمقراطى من ناحية وبتطبيق أفكار التنوير وما يكشف عنه العلم. ولكن بعد انقضاء خمسين عاما على الثورة الفرنسية تبين ان المسألة لم تكن أكثر من حلول الطبقة الوسطى محل طبقة النبلاء والاقطاعيين. ومع مرور زمن أطول تبين أن تحقيق المساواة بين البشر أصعب بكثير مما كان يظن، وان التفاؤل بقدرة التفكير العلمى ومبادئ دعاة التنوير على تحقيق الفردوس على الأرض، مبالغ فيه جدا.

حدث شىء مماثل للثورة الروسية التى قامت فى 1917، فقد أثارت هذه الثورة من الآمال والأحلام ما ألهب خيال حتى أكثر المفكرين عقلانية واتزانا، وكتب بعضهم يصف ما حدث فى روسيا بأنه ليس أقل من بناء حضارة إنسانية جديدة. ولكن بعد ثلاثين عاما من قيام هذه الثورة، نشر روائى إنجليزى (جورج أورويل) رواية يتنبأ فيها بأن الصلح والوئام سوف يحلان محل العداوة والخصام بين من قاموا بالثورة ومن قامت ضدهم الثورة (وهو ما حدث بالفعل). وبعد ذلك بعشر سنوات، كتب مفكر فرنسى (ريمون آرون) أن الثورة الروسية لم تكن فى الحقيقة أكثر من محاولة روسيا المتخلفة اللحاق بالغرب المتقدم.

أما ثورة 1952 فى مصر، فنحن نعرف حجم الآمال التى أثارتها، ومدى التفاؤل بقدرتها على حل أصعب المشكلات التى كانت تواجه المصريين، كما نعرف درجة خيبة الأمل التى حلت بالمصريين بعد ما لا يزيد على خمسة عشر عاما من قيام تلك الثورة.

ثم قامت ثورة 25 يناير 2011، التى رفعت فى البداية شعارات (الخبز والحرية والكرامة الإنسانية)، وها نحن نرى ما حدث لهذه الآمال الثلاثة. وفى منتصف 2012 ظننا أن مصر تدخل عصر الديمقراطية السياسية، ثم رأينا أعمال الاستبداد التى طبقها أول رئيس منتخب خلال السنة التالية لانتخابه، ثم ها نحن نرى ما يبديه كل طرف من أطراف الخلاف السياسى من نفاد صبر تجاه الأطراف الأخرى، حتى فيما يتعلق ببقاء هذه الأطراف على قيد الحياة.

قيل مرة بحق انه كما انك يجب ألا تحكم على أى شخص وفقا لما يقوله هذا الشخص عن نفصه، فانك أيضا يجب ألا تصف أى عصر من العصور بالأوصاف التى يطلقها هذا العصر على نفسه. ان النتائج التى ترتبت على هذه الثورات كلها ظهر أنها مختلفة جدا عن مقدماتها. ومع هذا فلا يمكن انكار أن كل ما اقترنت به تلك الثورات من مآس، كانت تحمل فى طياتها مستقبلا أفضل مما كان عليه الحال قبل قيام الثورة، على الأقل فى بعض الجوانب المهمة من الحياة الاجتماعية أو السياسية. لم تحقق الثورة الفرنسية المساواة المأمولة، ولكنها قضت قضاء مبرما على الاقطاع. ولم تحقق الثورة الروسية القضاء على الاستغلال، ولكنها حولت روسيا إلى دولة صناعية متقدمة. ولم تحقق ثورة 1952 فى مصر بأى درجة مرضية الأهداف الستة التى أعلنها الضباط الأحرار عند قيام الثورة، ولكنها على الأقل فتحت الأبواب أمام نمو طبقة متوسطة متعلمة ومنتجة، كانت عند قيام الثورة صغيرة للغاية، ومحاصرة بين طبقة عليا طفيلية وبحر واسع من الأميين والمتبطلين بطالة مقنعة. فما الذى يمكن ان نتوقعه يا ترى من ثمار لثورة المصريين فى (2011 ــ 2013)؟ ما الذى يمكن ان يكتبه المؤرخون عن «النتائج النهائية» لهذه الثورة؟

●●●

لكل ثورة، فيما يبدو، وظيفتان، يمكن وصفهما، باستخدام لغة القانونيين، بالوظيفة «المنشئة»، والوظيفة «الكاشفة». الثورة لا يقتصر دورها على تغيير الواقع وإنشاء واقع جديد (وهذا هو ما أقصده بالوظيفة المنشئة)، ولكنها أيضا تكشف عن حقائق كانت موجودة بالفعل قبل الثورة ولكن غير مرئية، فتأتى الثورة فترفع عنها الغطاء وتصبح على مرأى من الجميع. لقد كشفت الثورة المصرية فى السنتين الأخيرتين، عما حدث للمجتمع المصرى من تطورات بالغة الأهمية خلال الأربعين عاما السابقة، (منذ توقفت ثورة 1952 عن إحداث التطورات المرغوب فيها والتى قامت من أجلها). استمرت الطبقة الوسطى فى النمو خلال تلك الأربعين عاما (وإن كان ذلك لأسباب غير أسباب نموها فى الخمسينيات والستينيات)، وانتشر التعليم انتشارا ملحوظا خلال هذه الأربعين عاما (وان كان مستواه قد انخفض بشدة عما كان فى الخمسينيات والستينيات)، وزاد اتصال المصريين بالغرب، عن طريق قدوم السياح والسلع ووسائل الإعلام والاتصالات الحديثة، وعن طريق سفر المصريين أنفسهم إلى الخليج وغيره، وزاد تحرر المرأة المصرية نفسيا وعقليا، (وإن كان هناك من ينكر ذلك لمجرد انتشار الحجاب).

كل هذا كشفت عنه ثورة (2011 ــ 2013) الغطاء. ولكنها أيضا كشفت الغطاء عن فشل ذريع فى تحقيق التنمية الاقتصادية المطلوبة، فزادت البطالة بشدة، واتسعت الفجوة بين الطبقات، وانتشرت درجة عالية من اللا عقلانية فى الخطاب الدينى ووسائل الإعلام.

إن ما شهدناه خلال العامين الماضيين من تطورات وأحداث مؤسفة، وصراع مخيف بين قسمين كبيرين من المجتمع المصرى، مسلمين ضد أقباط، متعصبين ضد متسامحين، فهم للدين يرجع إلى العصور الوسطى ضد فهم أكثر تعقلا للدين، دعوة إلى كبت المرأة ووضع حد لتحررها النفسى والعقلى ضد إصرار قطاع كبير من النساء المصريات على الاستمرار فى حركة التحرر، كل هذا ليس فى رأيى إلا نتيجة مباشرة لما حدث فى المجتمع المصرى من تطورات قبل الثورة.

إن ما يحدث فى مصر الآن يمكن أن نرى فيه مجرد محاولات، (وإن كانت كثيرا ما تكون مأساوية ودموية) لحل مشكلات خلقتها نحو أربعين عاما من التطورات الاقتصادية والاجتماعية فى مصر والعالم. ولكن القصة لا يمكن ان تنتهى عند هذه النقطة. فما زال هناك الدور «المنشئ» للثورة. وهو ما لا يمكن ان نراه الآن للأسف، بل ولا حتى أن نشعر ببوادره. وسوف يكون بلا شك نتيجة تفاعل عوامل داخلية ودولية. ولكن لا شك لدى أنه قادم لا محالة، وأنه يحمل فى طياته آثارا طيبة، رغم كل ما يعانيه المصريون الآن من مصاعب. وهذا هو ما سيكتشفه المؤرخون بلاشك أيضا، بعد عشرين عاما أو أكثر.