(1)
عنصر تكوينى مركزى فى هوية من يعيشون على أرض مصر، وينتمون حضارة وثقافة إليها، اللغة العربية؛ لغتنا هويتنا. والمصريون كانوا من الشعوب التى غيّرت لغتها عبر التاريخ فيما لا يزيد على المرتين أو ثلاث مرات على الأكثر! ومنذ تعرّبت مصر، وتحدّث أهلها بالعربية، وارتبط تكوين وثقافة أبناء مصر بلغة القرآن الكريم، وبعلوم الثقافة العربية والإسلامية، أصبحت مصر مركزًا حضاريًا مشعًّا، وبؤرةً من بؤر الأصالة العربية، والثقافة العربية، والحفاظ عليها وصونها وتطويرها أيضًا.
وأنا من أنصار الوعى باللغة والتبصير بأوضاعها الآنية، وتشخيص مشكلاتها المزمنة، والبحث عن علاج لها، قبل أى حديث تمجيدى يخالف الواقع، أو زهو ماضوى لا معنى له، أو ترديد عبارات إنشائية استعلائية تفارق الواقع والحقيقة، من دون إدراك أن هناك أزمة/أزمات فى التعامل مع واقعنا اللغوى الراهن، وأننا، على المستوى الجمعى، فقدنا الحد الأدنى اللازم من إجادتها؛ تواصلًا وتعبيرًا، حديثًا وكتابة، فى المعاملات اليومية، والمكاتبات الرسمية، وكذلك الخطابات اللغوية المتداولة فى سياق المؤسسات العريقة التى تتعاطى مع اللغة بشكل يومى (الجامعة، المؤسسة الدبلوماسية، المؤسسة القانونية، المؤسسات الإعلامية.. إلخ)، وكانت فى وقت من الأوقات تمثل إنتاجًا لغويًا متطورًا ورائعًا، قبل أن يصيبها ما أصاب غيرها فى نصف القرن الأخير!
(2)
أؤمن، مثلما آمن طه حسين، بأن لغتنا العربية يُسرٌ لا عُسر، ونحن نملكها كما كان القدماء يملكونها، ولنا أن نضيف إليها ما نحتاج إليه فى العصر الحديث. هذا الوعى الرهيف بملكيتنا للغة، وليس خضوعنا نحن لها، كان وراء النظرة النقدية العميقة التى طرحها طه حسين فى بحثه عن مشكلات اللغة العربية (لاحظ أن هذا الطرح كان منذ ثلاثة أرباع القرن أو يزيد، وما زلنا نراوح مطارحنا فى البحث ذاته، والأزمات نفسها)؛ يقول فى كتابه «أدبنا الحديث: ما له وما عليه»: «ولغتنا- اللغة العربية- قد صادفت من المشكلات مثلما تصادف فى هذه الأيام؛ فليس هذا الوقت هو الوقت الأول الذى لقيت فيه اللغة العربية حضارات لم تكن تعرفها، وعلومًا لم تكن تخطر للعرب، وإنما عهد العرب بهذا قديم؛ فهم قد عاصروا الحضارة الفارسية واليونانية بعيد ظهور الإسلام منذ كان الفتح العربى، وهم قد لقوا حضارات أخرى غير الفارسية واليونانية، وهم قد واجهوا هذه الحضارات وواجهوا ما كان فيها من ثقافاتٍ مختلفة، وهم قد استطاعوا أن يسيغوا هذه الثقافات، وأن يسيغوها لأنفسهم، وأن يفرضوا عليها لغتهم بعد ذلك. فهم قد طوّعوا هذه الثقافات للغتهم، وطوّعوا لغتهم لهذه الثقافات».
ومن أيسر الأمور أن يرجع أحدنا إلى أى كتاب من الكتب الفلسفية العربية القديمة، ليرى كيف استطاع العرب أن يسيغوا ما كُتب عن فلسفة أرسطو وأفلاطون، وطبّ جالينوس، إلى آخر هذه العلوم التى استطاعت اللغة العربية أن تسيغها، وأن تطوّعها لقواعدها، وأن تطوّع لها قواعدها أيضًا.
وإذا كان هذا قد دلّ على شىء، فهو إنما دلّ على أن اللغة العربية ليست باللغة التى كُتب عليها الجمود، وليست باللغة التى كُتب عليها أن تقصر على أهل البادية ومن يشبههم من أهل المدن أو القرى العربية القديمة، وإنما هى لغة خُلقت لتكون لغة عالمية، بأوسع معانى هذه الكلمة وأدقّها، دون أن تنزل عن أصولها، وعن قواعدها، وعن خصائصها التى تمتاز بها من سائر اللغات».
(3)
وأنا دائمًا ما أستشهد بهذا النص الكاشف، وأتخذه نقطة انطلاق فى مقاربة مشكلات اللغة العربية، والبحث عن حلول جذرية لها؛ وأتصور أننا فى حاجة إلى أن نسير فى طريقين متوازيين معًا: الأول، الارتقاء بالمهارات والقدرات اللغوية الضرورية واللازمة لأداء فصيح وممارسة لغوية سليمة وواضحة؛ والثانى، تخليص هذه اللغة من «كهنوت» التقديس والتحنيط الذى يمارسه البعض، تارةً باسم «الدين»، وتارةً باسم «التراث»، وتارةً ثالثة باسم «السلف»!
أعلم أن تدريس اللغة العربية يتم بأسوأ طريقة! وقعت هذه اللغة بين سندان المتحجرين والجامدين والمفارقين لواقع العصر، وسنن التطور، وضرورة مواكبة المتغيرات فى الوسائل والآليات، وبين مطرقة الجاهلين بها، الرافضين لها، والذين قرروا بمحض إرادتهم إصدار حكم بالإعدام عليها؛ إما بإهمالها كلية، والتغاضى عن ضرورة التمكن منها وإتقانها، وإما التعامل بها على علّاتها هى، فيفسدونها ويهدرون كرامتها، لنرى ما نراه كل يوم من مهازل لغوية فجّة فى كل وسائل الإعلام والتعبير.. إلخ.
الأمر ليس صعبًا، ولا مستحيلًا؛ فقط نحتاج إلى إرادة نافذة، وعزيمة ماضية تقوم وراء الإصلاح والتصدى للمشكلة، وثانيًا حسن الاختيار للخبرات والكفاءات من المتخصصين المشهود لهم بالبراعة والكفاية، لوضع رؤية كلية وشاملة، تُترجم إلى سياسات تُنفّذ على الأرض، وتغطى كل مراحل النشأة والتعليم والتكوين، وحتى ما بعد إنهاء الدراسة الجامعية، والتأكيد على الخطوط والمسارات التى تضمن الحد الأدنى من سلامة الاستخدام اللغوى الشفاهى والكتابى، خاصة فى دولاب الدولة الحكومى، وأجهزتها ومؤسساتها، وفرض حدٍّ تأهيلىّ معيّن لا يمكن، من دون اجتيازه، الترقى إلى المناصب الأعلى أو المراتب الإدارية العليا.