كان حلم العرب بأنهم، بعد حصولهم على الاستقلال فى النصف الأول من القرن الماضى، سينتقلون فى الحال من مرحلة الاستعمار إلى مرحلة «ما بعد الاستعمار». لكن المؤرخ المفكر جورج قرم كتب فى عام 1983 تحت عنوان «أوهام الذاكرة والإدراك» بأن أول قرار سيادى عربى مستقل اتخذته حكومة عربية كان تأميم قناة السويس فى عام 1956. وأن اعتقاد العرب من أنهم انتقلوا إلى مرحلة «ما بعد الاستعمار» لم يكن أكثر من وهم وسوء إدراك.
ذلك أن «ما بعد الاستعمار» لم يكن فى حقيقته إزالة للاستعمار، وإنما كان إزالة لأوضح صوره. فالاستعمار ظل محافظًا على فضاءات شاسعة للهيمنة غير المباشرة عبر الوطن العربى كله، مستفيدًا من روابط الخيانة والتعاون من قبل البعض أثناء فترة الاستعمار المباشرة السابقة.
نذكّر بتلك الجوانب التاريخية لنواجه أنفسنا بصدق، ومن دون مجاملة، ونطرح السؤال التالي: هل حقًا أن العرب قد خرجوا من تحت عباءة الاستعمار ودخلوا مرحلة «ما بعد الاستعمار»؟ وبعيدًا عن انطباعات 1983، لنتحدث عن اللحظة التاريخية التى نعيشها، فمن يتحكم ويهيمن ويستبيح جزءًا كبيرًا من الأرض العربية، بمستويات وصور شتى، وبالتالى يعيد الاستعمار المباشر ليحلّ مكان ما كنا نعتبره «ما بعد الاستعمار» الاستقلالى التحررى؟
أليسوا أولًا الاستعمار الغربى، وعلى رأسه وبقيادته من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، وثانيًا الكيان الصهيونى بمساعدة وتوجيه واستفادة من قبل الولايات المتحدة الأمريكية؟
هل نحتاج إلى الإثبات بآلاف التصريحات التى تباهى بها قادة الكيان الصهيونى، وعلى رأسهم المجرم نتنياهو، وقالها المسئولون الأمريكيون، وعلى رأسهم المستهزئ ترامب، وبآلاف الاعتداءات العسكرية والتدخلات السياسية التى قامت بها جيوش واستخبارات الجهتين، والتى تؤكد أن نفوذ الجهتين الاستعمارى قد أصبح حقيقة فى الحياة العربية بشتى صورها وأن للجهتين قدرة على توجيه مسارات شتى الأقطار لصالحهما؟
أليس عارًا أن يقف نتنياهو منذ بضعة أيام فوق أرض جنوب سوريا، وكأنها أرضه، ليتحدث بكبرياء وثقة عن مشروع «إسرائيل» الكبرى وأحلامها وعن ما هو مسموح وما هو مرفوض من قبل هذا الكيان من أى تصرف عربى يشتم منه أنه قد يمس هذا الكيان الاستعمارى الغاصب؟ يقف هذا الذى تقطر الدماء العربية، بما فيها السورية، من بين أصابعه ليرسم خرائط طريق سياسية وأمنية صهيونية لأقطار عربية يسميها بالاسم فلا نرى رد فعل عربى سياسى وأمنى واقتصادى مزلزل بكبرياء وكرامة من قبل كل الأمة العربية وبدعم من الدول الإسلامية؟
أليس عارًا أن يصّرح يوميًا ترامب ومساعدوه بشأن ما هو مسموح وما هو غير مسموح فى أرض العرب، ومع ذلك تظل العلاقات العربية - الأمريكية فى أحسن حال وتظل قوافل الحجيج العربية إلى واشنطن سائرة بلا انقطاع؟
حتى إذا ما تجرأت مجموعات نضالية جهادية مضحية من المقاومات العربية لتقاوم هذه الموجة من الاستعمار الجديد، إنبرى المنافقون وشتى أنواع الأتباع لانتقاد تلك المقاومة واتهامها بأنها أدخلت هذه الأمة فى مشاكل لا قبل لها بها؟ أليس ما تحاول أن تقوم به المقاومة بإمكانياتها المحدودة هو مماثل لما قام به الأجداد سابقًا للتخلص من الاستعمار: مقاومة بالسلاح وبالمقاطعة وبجعل وجود الاستعمار فى أرض العرب آنذاك مكلفًا؟
لماذا التفاخر بمقاومة الاستعمار فيما مضى، ولماذا الشعور بالذنب والعار والخوف من مقاومته فى الحاضر، بل وبمباركة البعض من المسئولين العرب، كما تدّعى بعض وسائل الإعلام الأمريكية والصهيونية، لكل ما يقوم به الاستعماريون لدحر هذه المقاومة العربية أو تلك، شماتة وكرهًا، وخلط خلافاتها السياسية مع هذه الحركة المقاومة أو تلك خطأ مع تبرير الهمجية البربرية الأمريكية - الصهيونية التى رأيناها وما زلنا نراها أمامنا؟
لا، لم ينتقل البعض منا، مع الأسف من مرحلة الاستعمار إلى مرحلة ما بعد الاستعمار، وعلى شابات وشباب هذه الأمة أن يعوا هذه الصورة المؤلمة ويناضلوا ضّدها.