التاريخ بين العلم والادّعاء.. من يملك حق رواية الماضى - ياسمين الشاذلي - بوابة الشروق
الأربعاء 31 ديسمبر 2025 7:01 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من ترشح لخلافة أحمد عبدالرؤوف في تدريب الزمالك؟

التاريخ بين العلم والادّعاء.. من يملك حق رواية الماضى

نشر فى : الثلاثاء 30 ديسمبر 2025 - 6:30 م | آخر تحديث : الثلاثاء 30 ديسمبر 2025 - 6:34 م

 

فى إحدى محاضرات مقرر العمارة المصرية القديمة الذى قمت بتدريسه فى الجامعة الأمريكية منذ سنوات، كنت أحرص منذ الأسبوع الأول على تدريب الطلاب على مهارة أساسية قبل أى حديث عن المعابد أو الأعمدة أو التخطيط المعمارى: كيف نمّيز بين المصدر الموثوق والمعلومة الزائفة؟ تحدثنا عن أهمية الرجوع إلى الدراسات الأكاديمية، ومعرفة مؤهلات كاتب المعلومة، وعن الفرق بين البحث العلمى والمواقع الإلكترونية والكتب التى تخلط بين الخيال والتاريخ مهما بدا خطابها مقنعًا.


وفى منتصف الفصل الدراسى اختار طالبان موضوع مشروعهما: الإضاءة فى مصر القديمة. بدا الاختيار واعدًا ومثيرًا للاهتمام؛ فالإضاءة عنصر مهم فى فهم العمارة، خاصة فى المعابد. لكن عندما بدأ العرض التقديمى فى آخر الفصل الدراسى فوجئت بأن الحديث لا يدور حول المشاعل أو تصميم الفتحات المعمارية أو استخدام الضوء الطبيعى، بل عن «المصابيح الكهربائية فى مصر القديمة». واستشهد الطالبان بمشهد شهير من معبد دندرة، يُعرف على الانترنت باسم «المصباح فى مصر القديمة».


قاطعت العرض وقلت بهدوء: «هذا التفسير غير صحيح». فجاء الرد سريعًا وواثقًا: «لكنه نظرية». عندها قلت الجملة التى لخصت جوهر المشكلة: «لا، هذه ليست نظرية. هذا خطأ». ما يراه البعض «لغزًا» هو فى الحقيقة نتيجة قراءة معزولة للأثر. مشهد دندرة يمثل رمزًا دينيًا معروفًا فى سياق طقسى واضح، مرتبط بالخلق والتجدد. تجاهل النصوص المصاحبة والسياق الدينى يحوّل الرموز إلى أجهزة حديثة لم تكن موجودة فى هذا الوقت.


فى هذا المقال سأحاول شرح لِمَ لا يُعد كل طرح «نظرية»، ولماذا تتطلب كتابة تاريخ مصر القديم أدوات ومعايير صارمة لا يستطيع الالتزام بها غير المتخصص.

 

من هو المؤرخ؟


لا يُعد المرء مؤرخًا لمصر القديمة لمجرد أنه يحبها أو يقرأ عنها. المؤرخ، بالمعنى الأكاديمى، هو من يستطيع التعامل مباشرة مع المصادر الأولية: النصوص الأصلية المكتوبة باللغة المصرية القديمة بمراحلها المختلفة، أو الأدلة الأثرية التى يتم الكشف عنها فى الحفائر. قراءة الترجمات الحديثة والتحليلات التاريخية بالطبع مفيدة، لكنها لا تكفى وحدها لأنها تفسيرات قد تختلف من باحث إلى آخر. عالم المصريات يقضى سنواتٍ طويلة فى دراسة اللغة المصرية القديمة بمراحلها المختلفة وخطوطها المتعددة، حتى يتمكّن من قراءة ما دوّنه المصريون القدماء بأنفسهم. كما يدرس الأساليب العلمية للعمل من خلال المشاركة فى الحفائر، حيث يتعلم منهجيات البحث والتوثيق وفهم الطبقات والسياق الأثرى. وإلى جانب ذلك لا بدّ له من إتقان اللغات الحديثة الأساسية فى مجال علم المصريات، وعلى رأسها الإنجليزية والفرنسية والألمانية، إذ إنّ جانبًا كبيرًا من أهم الدراسات والأبحاث المرجعية فى علم المصريات كُتب بهذه اللغات ولم يُترجم إلى العربية.


تمثّل هذه المعرفة اللغوية والمنهجية الأساس الذى يُمكّن عالم المصريات من قراءة الأدلة الأثرية قراءة علمية نقدية، لا تقوم على الانطباع أو التخمين، بل على الفهم الدقيق للسياق. فدراسة النصوص وحدها لا تكفى ما لم تُربط بالواقع الأثرى الذى كُتبت فيه، تمامًا كما أن اكتشاف أى أثر لا يمكن تفسيره بمعزل عن بيئته وسياقه الزمنى والمكانى. ومن هنا تأتى أهمية الربط بين القراءة اللغوية والتحليل الأثرى، لأن فهم السياق هو ما يحوّل القطعة الأثرية من مجرد شىء مدهش إلى دليل علمى. فلا يكفى العثور على قطعة أثرية مبهرة؛ الأهم هو فهم السياق الأثرى: أين وُجدت؟ فى أى طبقة زمنية؟ وما علاقتها بما يحيط بها من عمارة أو أدوات أو بقايا بشرية؟ فالعنصر الواحد إذا عُزل عن سياقه قد يقود إلى استنتاجات مضللة، بينما دراسته ضمن منظومته الأصلية قد تغيّر فهمنا للتاريخ بأكمله. ولهذا فإن غياب أى دليل مادى على وجود تقنيات إضاءة حديثة فى مصر القديمة لا يُعد فراغًا نملأه بالخيال بل دليلًا علميًا على خطأ هذا الادعاء.


فى العلم تعد النظرية بناء علمى قائم على أدلة قابلة للفحص، وليست فكرة جذابة بلا سند. الادعاء بوجود كهرباء فى مصر القديمة ليس نظرية، بل تصور لا تدعمه أية أدلة. نقش يشبه المصباح الكهربائى لا يمكن تفسيره كذلك دون الرجوع إلى النصوص المصاحبة لهذا النقش، والنقوش المجاورة والمشابهة، ودون العثور على بقايا أثرية لمصابيح كهربائية وللبنية التحتية لتوليد الكهرباء.

 

الدراسات متعددة التخصصات


لا يحاول هذا المقال إثبات أن إسهامات المتخصصين فى مجالات أخرى غير مرغوب فيها، بل هى ضرورية. فعندما يحاول علماء المصريات فهم كيفية بناء الأهرامات، فإنهم يعتمدون أولًا على جمع الأدلة الأثرية، مثل بقايا المنحدرات المستخدمة فى البناء التى وجدت بجانب الأهرامات، والبرديات التى تشرح تنظيم العمل بين العمال، وآثار القرية التى عاشوا فيها، إضافة إلى مقابرهم التى حملت ألقابهم ووظائفهم. وبعد ذلك يصبح من الضرورى التعاون مع المعماريين والمهندسين الذين يستخدمون هذه الأدلة الأثرية لتفسير كيفية تشييد الأهرامات اعتمادًا على التقنيات المتاحة فى ذلك العصر. فالمهندس لا يمكنه العمل بمعزل عن عالم المصريات، وإلا انتهى به الأمر إلى افتراض استخدام الجرافات واللوادر والرافعات الشوكية!
عرف المؤرخ مارك بلوخ التاريخ فى كتابه الشهير «حرفة المؤرخ» (The Historian’s Craft) بأنه «علم الإنسان فى الزمن» وأن مثله مثل سائر العلوم، له تقنياته ومناهجه الخاصة التى لا بّد من تعّلمها. فقيمة الكتب والتفسيرات التاريخية تعتمد على مدى إتقان المؤرخ لتفسير وتحليل مصادره.


وفى هذا السياق، يجب أن ندرك أن التاريخ ليس سردًا ثابتًا للأحداث، بل هو مجال معرفى يتطوّر باستمرار بتطوّر الأسئلة التى يطرحها المؤرخون، والمناهج التى يستخدمونها، ونوعية المصادر المتاحة لهم. فكل جيل يعيد طرح أسئلة جديدة على الماضى، انطلاقًا من اهتماماته وهمومه الحاضرة، وهو ما يؤدى بالضرورة إلى إعادة تفسير التاريخ، لا إلى تغييره أو «تزويره» كما قد يشاع أحيانًا.


على مدى القرنين الماضيين، ظهرت مدارس متعددة فى كتابة التاريخ، لكل منها منهجها وأدواتها وزوايا نظرها. فهناك المدرسة التقليدية أو الوضعية التى ركزت على الأحداث السياسية الكبرى، والملوك، والحروب، والمعاهدات، واعتمدت أساسًا على الوثائق الرسمية المعروفة، وتعرف بمدرسة «التاريخ من أعلى» (History from above). ثم جاءت مدرسة الحوليات (Annales) فى فرنسا، التى وسّعت آفاق البحث التاريخى لتشمل البُنى الاجتماعية والاقتصادية، والحياة اليومية، والعوامل طويلة المدى، مستفيدة من علم الاجتماع والجغرافيا والأنثروبولوجيا.


وفى النصف الثانى من القرن العشرين ظهرت اتجاهات جديدة مثل التاريخ الاجتماعى وتاريخ المهمّشين والتاريخ الثقافى، التى اهتمت بدراسة النساء، والعمّال، والفلاحين، والمعتقدات، والتمثّلات الذهنية، والرموز، وليس فقط النخب الحاكمة وتعرف بمدرسة «التاريخ من أسفل» (History from below). كما برزت مقاربات نقدية ركزت على علاقة التاريخ بالسلطة، وعلى ما يُكتب فى السجلات التاريخية وما يُسكت عنه، وهناك أيضًا مدرسة ما بعد الاستعمار (postcolonial historiography)، وهى مدرسة نقدية تسعى إلى تفكيك السرديات التاريخية التقليدية ذات النزعة الأوروبية المركزية، وتهدف إلى إعادة كتابة التاريخ من خلال مساءلة الروايات التى برّرت الاستعمار وهمّشت تجارب الشعوب غير الغربية. وتقوم هذه المقاربة على إعادة قراءة السجلات الاستعمارية، ووضع أصوات الشعوب المُستعمرة فى صدارة السرد التاريخى، والكشف عن التواريخ المُغيّبة والمهمّشة. كما تسلط الضوء على الآثار المستمرة للاستعمار، وتدعو إلى تبنّى روايات متعددة تمثل أصحابها بأنفسهم، بهدف تفكيك البُنى السلطوية الموروثة وتعزيز مسارات الشفاء الثقافى.


هذه التعددية فى المناهج لا تعنى أن كل شىء نسبى أو أن جميع التفسيرات متساوية، بل تعكس حقيقة أساسية: فهم الماضى عملية قائمة على التدريب والمنهج، لكنها فى الوقت نفسه عملية حية تتجدد باستمرار. فكل مقاربة جديدة تضيف طبقة أعمق من الفهم، وتساعدنا على رؤية الماضى لا كحكاية منتهية، بل كحقل مفتوح للأسئلة والتحليل وإعادة القراءة. وربما عبّر الكاتب الساخر أوسكار وايلد عن هذه الفكرة بوضوح حين قال، فى عمله «الناقد كفنان» (The Critic as Artist):
«الواجب الوحيد الذى ندين به للتاريخ هو أن نعيد كتابته».


فليست إعادة كتابة التاريخ هنا دعوة إلى العبث بالماضى بل اعترافًا بأن التاريخ، بوصفه علمًا وصنعة، يظل دائمًا فى حوار مستمر بين ما كان، وما نعرفه اليوم، وما نسعى إلى فهمه غدًا.

معاون وزير الآثار لشئون المتاحف الأسبق والمشرف على إدارة المنظمات الدولية والتعاون الدولى الأسبق

 

ياسمين الشاذلي معاون وزير الآثار لشئون المتاحف الأسبق والمشرف على إدارة المنظمات الدولية والتعاون الدولي الأسبق
التعليقات