«النافورة» بين ثقافة الجمال وجدل الصيف الساخن - بوابة الشروق
الأحد 26 مايو 2024 10:59 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«النافورة» بين ثقافة الجمال وجدل الصيف الساخن

القاهرة - أ ش أ:
نشر في: السبت 3 أغسطس 2019 - 1:00 م | آخر تحديث: السبت 3 أغسطس 2019 - 1:00 م

في ذروة الصيف، تلطف النافورة من حدة الحر ويتلمس البعض عندها ملاذا وشيئا من الاسترخاء ومتعة العين والحواس ككل غير أن النوافير التي تشكل جزءا أصيلا من التاريخ الإنساني وثقافة الجمال قد تزيد من حدة لهيب الصيف بجدل حاد كما يحدث الآن في بريطانيا.

ففي هذا الصيف الساخن تشهد بريطانيا جدلا حامي الوطيس حول النوافير الجديدة في العاصمة لندن، وهو جدل امتد ما بين الصحافة ومواقع التواصل الاجتماعي "السوشيال ميديا" وسط انتقادات حادة ذهب أصحابها إلى أن تلك النوافير أو النافورات المائية بتصميماتها الجديدة قبيحة ومبتذلة ومجافية للذوق والجمال.

وكانت السلطات في العاصمة البريطانية لندن قد أعلنت مؤخرا عن مواقع لـ50 نافورة جديدة ضمن خطة لإقامة 100 نافورة في المدينة وهي نوافير يمكن استخدام مياهها النقية لأغراض الشرب في قناني آمنة بدلا من العبوات البلاستيكية التي تثير مخاوف صحية.

ومع أن هذه المبادرة جديرة بالترحاب لأبعادها الصحية المتعلقة بمياه الشرب النقية والآمنة ، فإنها تعرضت لوابل من الهجوم وخاصة على مواقع التواصل الاجتماعي جراء تصميمات النوافير الجديدة التي كانت في الواقع سبب الانتقادات الحادة.

ورغم أن مصممي النوافير الجديدة دافعوا عن تصميماتهم ذات القواعد البيضاء والمساقط المائية الزرقاء باعتبارها تحقق سهولة الرؤية مع تحمل الأجواء المختلفة عبر فصول السنة، فإن وابل الانتقادات لم يتوقف ما بين رجل الشارع وشخصيات من النخبة في اتفاق على قبح تصميمات النوافير الجديدة في لندن.

ورأى المؤرخ والاعلامي البريطاني توم ديكخوف ان فكرة مشروع النافورات الجديدة في لندن "عظيمة لكن التصميمات قبيحة للغاية". وتساءل بغضب على موقع التدوينات القصيرة "تويتر" قائلا: "هل أصحاب تلك التصميمات من البشر؟!".

وفي سياق هذا الجدل الغاضب، عاد البعض للتاريخ وعقد مقارنات بين نافورات لندن الجديدة في عام 2019 ونوافير العصر الفيكتوري التي تتميز بالأناقة وابداعاتها في الزخرفة مقابل ما وصف بالانهيار النوعي المريع في الجماليات وتصميمات نوافير العصر الرقمي مع أن تقنيات الحاسوب أتاحت للمهندسين إمكانات هائلة للتحكم في الإضاءة وجريان المياه والموسيقى المرافقة أحيانا.

في المقابل، يرد جون بورك وهو أحد كبار المسؤولين ببلدية لندن على تلك الانتقادات، لافتا إلى أن النوافير التاريخية حاضرة في المشروع الجديد ويجري إصلاح النوافير المعطلة منها، غير أنه يوضح أن تكاليف الإصلاح وإعادة التشغيل لتلك النافورات التاريخية مكلفة للغاية كما أن نوافير العصر الفيكتوري كثيرة الأعطال.

وفي أوروبا، كان العصر الذهبي للنوافير ما بين القرنين الـ16 والـ18 واستخدمت أنظمة ضخ معقدة يتحول فيها الماء إلى شلالات واسعة أو يوجه في قنوات للأسفل أو للأعلى لتشكل نافورات قوية فيما تزهو العاصمة الإيطالية روما بنوافير تاريخية كنافورة "فيلا ديستا" ونافورة "الأنهار الأربعة" كما تزهو فرنسا بنوافير "قصر فرساي" وذاعت أيضا صيت "نافورة جنيف" و"نافورة لاس فيجاس".

والنوافير قد تستخدم لتوفير مياه الشرب كما هو الحال في النوافير الجديدة المثيرة للجدل في بريطانيا، لكن نافورة "تريفي" أو "الطرق الثلاثة" في روما اكتسبت المزيد من الشهرة فوق شهرتها لدى قراء الكاتب المصري الراحل أنيس منصور بعد ان كتب عنها كشاهدة على قصة حب عاشها بوفاء.

فنافورة الطرق الثلاثة التي تعد أكبر نافورة باروكية في روما وواحدة من أشهر النوافير في العالم ويقصدها ملايين السائحين سنويا على أمل ان تتحقق امانيهم وفقا لأسطورة قديمة لها قصة كبيرة مع الكاتب المصري الكبير أنيس منصور الذي قضى في الـ21 أكتوبر عام 2011.

عند هذه النافورة التي يبلغ ارتفاعها 26 مترا ويصل اتساعها إلى 20 مترا وقام بتصميمها المعماري الإيطالي نيكولا سالفي وافتتحت عام 1762، كان لأنيس منصور أن يقسم مع حبيبته على الحب حتى الموت، وقد وفى الكاتب الكبير بالقسم حتى ماتت الحبيبة كما كتب صاحب "في صالون العقاد كانت لنا أيام" ووصف حبيبته الإيطالية الراحلة بأنها "نموذج للجمال".

معها كانت أيام بين الحدائق الغناء فى الريفييرا الإيطالية ومعها أقسما عند "نافورة الطرق الثلاثة" في روما على الحب حتى الموت وبعدها كان يتضرع لخالقه أن يخفف أحزانه "فلولاها ما كتبت وما بكيت".

وأنيس منصور كتب في الحب كثيرا وحكى وبكى لتتحول كلماته إلى أسطورة أخرى من أساطير نافورة تريفي التي بنيت على نبع يقول الموروث الشعبي الإيطالي أنه كان مقصدا للفتيات الراغبات في تحقيق الأماني.

ويعتقد البعض حتى الآن أنه اذا أعطى شخص ظهره لنافورة تريفي وقام برمي قطعة نقدية داخلها مستخدما ذراعه اليمنى فوق اليسرى، فإن أمنيته ستتحقق كما يعتقد البعض أنه في حالة استعادة شخص ما للقطعة النقدية التي ألقاها في النافورة سيحظى بزيارة أخرى لنافورة الطرق الثلاثة وروما.

وفيما تقدر قيمة القطع النقدية التي تلقى داخل هذه النافورة بنحو مليوني يورو سنويا، فإن القائمين على نافورة تريفي يجمعون كل ليلة اثنين تلك العملات وتخصص لأغراض إنسانية كمعالجة المرضى والمتضررين من النزاعات والحروب في العالم.

وبالتأكيد لم تكن الشاعرة الأمريكية الراحلة وكاتبة القصة القصيرة اليزابيث بيشوب التي قضت عام 1979 تعلم وهي تبدع قصيدة بديعة عن "الشمس الإفريقية ورمال السيرك الحزينة وأسود رملية تتحلق بحزن حول نافورة رومانية قديمة مخضبة بالدماء في وسط السيرك أن النوافير اللندنية الجديدة ستثير الكثير من الجدل في صيف 2019 الذي يوصف بالصيف الاستثنائي في درجات حرارته المرتفعة".

وهذا الجدل المحتدم في لندن يؤكد حقيقة ان تصميم النافورة ليست بالمسألة اليسيرة وهي حقيقة سلم بها خبراء بريطانيون في هذا المجال الجامع ما بين الهندسة المعمارية والتذوق الجمالي وهو مجال لمعت فيه المهندسة المعمارية العراقية الأصل زها حديد والتي مازالت حاضرة بابداعاتها العالمية في تصميمات العمارة رغم انها رحلت عن الحياة الدنيا منذ أكثر من 3 أعوام.

وثمة إشارات تاريخية تفيد بأن الشرق القديم عرف النوافير منذ عام 4000 قبل الميلاد كما تنسب بعض الكتب والكتابات التاريخية اختراع النافورة إلى العالم المصري "هيرون السكندري" الذي عاش بالإسكندرية كعالم رياضيات ومخترع في حقبة البطالمة بالقرن الثاني قبل الميلاد.

أما الحضارة العربية-الإسلامية فقدمت روائع في فن النوافير ما بين تخوم الصين والأندلس وحتى الآن، فإن من أشهر النوافير التاريخية "نافورة بهو السباع في قصر الحمراء" بغرناطة والتي يرجع تاريخها للقرن الـ13.

والقاهرة تزهو بنوافير شتى "كنافورة النيل في منطقة الجزيرة" وهي على هيئة طابقين ويندفع الماء من قلب الطابق الأول بارتفاع 100 متر، بينما تخرج من الطابق الثاني 32 نافورة صغيرة مع أضواء وستارة مائية خلابة تحيط بجسم النافورة التي أقيمت عام 1956 فيما تشهد القاهرة الكبرى وكل مدن مصر المزيد من النوافير في سياقات جمالية تضيف المزيد لثقافة الجمال.

أما متحف الفن الإسلامي في القاهرة الذي يحوي مجموعة من أندر وأروع الكنوز الثقافية على مستوى العالم الإسلامي تغطي مايقرب من 12 قرنا هجريا فيضم قاعات نوعية من بينها قاعة للمياه والفسقيات والحدائق، فيما كانت الفسقيات في مساجد تاريخية مصرية مصدر إلهام وإبداع لفنانين بعضهم من الغرب كما هو الحال في لوحة المستشرق البريطاني الراحل كي.ايه. كرزويل لفسقية الوضوء بصحن مسجد عمرو بن العاص.

ويعد متحف الفن الإسلامي بالقاهرة والذي افتتح عام 1903 وأعيد افتتاحه في مطلع عام 2017 بعد انتهاء أعمال ترميمه وإعادة تأهيله من أكبر المتاحف الإسلامية في العالم إن لم يكن أكبرها على الإطلاق، فيما يضم مجموعات متنوعة من الفنون الإسلامية وتجلياتها الثقافية بمصر والشام وجزيرة العرب وشمال إفريقيا والأندلس جنبا إلى جنب مع إيران والهند وأفغانستان والصين وهي الفنون التي تضم الفسقيات والنوافير وجماليات المياه على وجه العموم.

وفي كتاب "التراث المعماري الفاطمي والأيوبي في مصر" يتطرق المؤلف محمود أحمد درويش للفساقي في البيوت والدور الكبيرة، موضحا أن تلك الفساقي ذات النوافير كانت إلى جانب وظيفتها الجمالية في المعمار تقوم بدور مهم في الوقاية من الحرائق والتصدي لها.

وإذا كانت الفسقيات حاضرة في كثير من المساجد التاريخية بالقاهرة وغيرها من مدن مصر فهي تستخدم في الوضوء كما يتجلى في فسقية مسجد الحاكم بأمر الله في شارع المعز القاهري والتي تتوسط الصحن الأوسط المكشوف للمسجد.

ومن القصور التاريخية المصرية التي تتجلى فيها جماليات الفسقيات قصر محمد علي في شبرا ومن ملامحه المميزة، بركته الرخامية الكبيرة التي تتوسطه وفي القلب منها نافورة بها زخارف على شكل أسماك حتى أن البعض أطلق على هذا القصر ككل والذي يرجع تاريخه لعام 1809 اسم "قصر الفسقية".

والفسقية في الفن الإسلامي حوض من الرخام أو نحوه مستدير غالبا تتوسطه نافورة ماء وكانت تبلط عادة بالمرمر الأبيض وتوضع غالبا في القصور والبيوت الكبيرة والحدائق والميادين وبعض الفسقيات مازالت تشكل معالم تاريخية مثل "فسقية الأغالبة" في مدينة القيروان التونسية وشيدت بين عامي 860 و862.

وإذا كانت هذه الفسقية التاريخية التونسية استخدمت في تغذية القيروان بالمياه وكمكان للترويح عن النفس، فإن الفسقيات أو الفساقي في الحضارة الإسلامية ترمز للازدهار والإبداع في ترويض المياه وتعبر عن درجات عالية من الحساسية الفنية كما أن بعض فوهاتها من المنحوتات البرونزية المتعددة الأشكال تحف فنية تدخل في روائع الفن الإنساني ككل.

ومابين "هيرون السكندري" وطرائف نافورة "تريفي" وجدل نوافير لندن الجديدة في الصيف اللاهب، تبقى النوافير قصة من قصص الحضارة الإنسانية وأشواق الإنسان عبر التاريخ للجمال وقدرته على صنع إبداعات تلبي أشواقه. إنها النافورة "حاضنة المياه والأماني".



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك