تزخر حياة الموسيقار العظيم سيد درويش بالمواقف التي تعكس أجواء العصر التأسيسي للفن المصري الحديث، وكيف تمكن من إنجاز كل هذا القدر من الإنتاج الموسيقي الفريد رغم أنف الظروف الاجتماعية والثقافية الصعبة في بداية القرن العشرين، مما يبرهن على أهمية دور رواد العمل العام والمهني والثقافي في مصر بمختلف المجالات خلال تلك الحقبة.
يجدر بنا الآن مقارنة كيف نتحدث اليوم بإجلال عن سيد درويش صاحب المكانة والقيمة الهائلة في تاريخ مصر، وبين الصورة التي كانت سائدة في عصره عن الموسيقيين بشكل عام، والنظر متأنين إلى الأوضاع التي عاصرها وما تعرض له من صعاب.
مأذون يرفض عقد قران سيد درويش!!
يروي حسن درويش في كتابه "من أجل أبي سيد درويش"، موقفاً قاسياً ترك أثرا عميقا في نفس والده حدث ليلة زفافه بسبب أفكار المجتمع حينها، حيث كان سيد درويش مازال في طور الانتشار ومحاولات التحقق، والمجتمع لا يحترم ولا يعترف بأهلية الفنانين، لذلك تعرض لرفض عقد قرانه بسبب هذه الأفكار.
بحسب ما ذكره حسن، في يوم الخميس 29 مايو من عام 1919 وفي منزل بسيط يقع في حي جزيرة بدران بشبرا اجتمعت النسوة والفتيات بالزغاريد في بهجة وسرور وتزينت العروس في دارها، وجميعهن يترقبن لحظة انتهاء انعقاد مراسم الزواج حتى ينطلقن بأكواب الشربات على المدعوين، ولكن ما حدث عكس ذلك.
يقول حسن: "جلس العريس في صدارة المجلس وفي المواجهة وكيل العروس وجلس بينهما المأذون فحمد الله وأثنى عليه ثم صلى على نبيه ثم بدأ يتم اجراءات عقد القران ويدون البيانات المطلوبة عن كلا العروسين والمدعوون يقرءون الفاتحة في رهبة وخشوع، والتفت المأذون إلى العريس يسأله عن اسمه بأجابه سيد درويش البحر ثم استفسر عن طبيعة مهنته فرد عليه أنه يعمل موسيقي وما كاد العريس ينطق بالكلمة حتى اكفهر وجه المأذون وانقلبت سحنته وبدأ في جمع أوراقه ودفاتره بغية الانصراف عن هذه الليلة رافضا أن يتم اجراءات عقد الزواج، وصعق العريس من تصرف المأذون".
هرج ومرج في حفل القران
تسبب الموقف في حالة من الهرج والمرج بين الحاضرين، وظهرت على وجوههم أمارات الدهشة والتساؤل عن سبب رد فعل المأذون، يكمل حسن : "قال المأذون إن العرف المتفق عليه يقضي بعدم الاعتراف بأهلية العاملين في الحقل الموسيقي أو الوسط الفني ولا يمكن لي ولا لأي مأذون آخر إتمام العقد لهذه الزيجة وساد الصمت".
وكان رد فعل سيد درويش أنه شعر بالغضب والغيظ وشعر أن كرامته أهينت كفنان بين جميع الحاضرين فهو عريس الليلة وجميع العيون تنظر له، ولإنقاذ الموقف تصرف درويش تصرفاً سريعاً وبدل طبيعة عمله وقال: "أعمل مدرسا" وأتم المأذون العقد ولكن على حسب وصف حسن أن هذا الموقف ترك أثر لطمة قاسية في نفس والده ولذلك كان جزء كبير من اهتمامه هو رد اعتباره بالحصول على اعتراف مجتمعي بأهمية الفنان.

وثيقة عقد قران سيد درويش ويظهر فيه توقيعه
كيف عمل درويش على رفع مكانة الفنان؟
عمل سيد درويش فيما بعد على رفع مكانة الفنان في المجتمع من خلال سياقات مختلفة.
تزعم الحركة الفنية أمام أسماء كانت مهمة حينها مثل كامل الخلعي وابراهيم القباني وعبدالرحيم المسلوب، وأصبحت علاقاته بأصحاب العمل مبنية على ما حازته ألحانه من نجاح وإعجابهم جعلهم يسعون إليه دائماً ليستأثروا بإنتاجه وكان درويش ينتهز هذه الروابط التجارية ليؤكد بها أن المجتمع في حاجة ملحة لفنان ناجح وحينئذ لابد أن يلتزم المجتمع بمنح الترضية اللازمة لهذا الفنان، لذلك لم يتساهل أبدا في تقييم أعماله مما ترتب عليه رفع قدر رجال الفن في مجتمع لا يقاس فيه الفرد إلا بالقدر الذي يربحه من المال، ولذلك اهتم برفع أجور الملحنين، على حد وصف حسن درويش.
ونتيجة للنشاط الفني الذي قاده درويش اهتمت الصحافة به بشدة وظهرت كثير من المقالات التي تتحدث عنه، مثل مقال "التمثيل الهزلي الوطني" في يوليو 1919 في جريدة الاكسبريس، واستفسر البعض عن الضجة التي صنعها درويش في مقال "علام هذه الضجة" في جريدة الشباب 13 نوفمبر 1919، وذكر هذا المقال أن أغاني سيد درويش طبعت في كراسات مخصوصة ووزعت 15 ألف نسخة في وقت قليل.
وفي مطلع 1920 بدأ الحراك في تجاه تكوين نقابة للموسيقى، وبالفعل تكونت لجنة لوضع مشروع نقابة ومعهد الموسيقى الشرقية، وفي 21 يوليو 1920 كتبت صحيفة الأفكار خبراً عن هذه اللجنة وعملها وأسماء الشخصيات المشاركة فيها، وكان من بينهم داود حسني وابراهيم العقاد وعبداللطيف البنا والشيخ سيد درويش ومحمد القصبجي وفريد عثمان وتوفيق الصباغ وغيرهم.
تابع القراءة في ملف الشروق عن سيد درويش 100 عام من الإلهام