نشر الكاتب الصحفي عزت إبراهيم، رئيس تحرير موقع الأهرام أونلاين، على صفحته الشخصية بموقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، قراءة في كتاب «Fight Oligarchy» (محاربة حكم الأقلية) لمؤلفه السيناتور الأمريكي بيرني ساندرز، مشيرا إلى أهميته الفكرية والسياسية في تفسير التحولات التي تمر بها الديمقراطية الأمريكية.
ولقي المنشور، تفاعلا واسعا من المتابعين لما تضمنته من تحليل عميق لأفكار الكتاب الذي نشره باللغة الإنجليزية بموقع الأهرام ويكيلي، ووصفه بأنه أقرب إلى بيان فكري ضد هيمنة النخبة الاقتصادية منه إلى مذكرات سياسية تقليدية.
* صرخة فكرية
وأوضح عزت إبراهيم في عرضه، أن ساندرز يتناول في هذا العمل الجذور الفكرية لصعود رموز اليسار الجديد في الولايات المتحدة، ومن بينهم النائب زوهران ممداني، بوصفهم امتدادًا لجيل يسعى إلى إعادة تعريف العدالة الاجتماعية، مؤكداً أن الكتاب يمثل صرخة فكرية ضد انزلاق الديمقراطية إلى حكم الأقلية، ودعوة إلى استعادة جوهر المشاركة الشعبية في السياسة والاقتصاد.
وبدأ عزت، مقاله بـ"إليكم هذا الكتاب الهام.. الجذور الفكرية لظاهرة زوهران ممداني محاربة حكم الأقلية"، تأليف بيرني ساندرز ، مشيرًا إلى أن الكتاب ظهر قبل انتخابات نيويورك.
* عاصفة الأفكار
وتحت عنوان "عاصفة الأفكار التي يقودها السيناتور الاشتراكي بيرني ساندرز"، كتب: "يقدّم بيرني ساندرز في كتابه «Fight Oligarchy» عملا أقرب إلى البيان الفكري وليس نوعا من المذكرات السياسية.. فالسيناتور الأمريكي الذي شكّل ظاهرة سياسية منذ حملته الأولى عام 2016، لا يعيد هنا سرد تجربته الشخصية، بل يحاول تفسير التحولات التي تمر بها الديمقراطية الأمريكية من الداخل، متسائلا عما إذا كانت البلاد لا تزال ديمقراطية بالمعنى الحقيقي للكلمة أم أنها انزلقت، تدريجياً، إلى ما يسميه "حكم الأقلية".
وتابع: "الفكرة المركزية التي يدور حولها الكتاب بسيطة في ظاهرها لكنها مقلقة في نتائجها: الولايات المتحدة، كما يراها ساندرز، تُحكم اليوم بواسطة شبكة صغيرة من المليارديرات الذين يمتلكون النفوذ الاقتصادي والسياسي والإعلامي، ويحددون مسار السياسات العامة وفق مصالحهم الخاصة، بينما تراجعت قدرة المواطن العادي على التأثير أو المشاركة الفعلية في القرار العام".
ويفتتح ساندرز، كتابه بمقدمة تعود إلى لحظة استئناف نشاطه الجماهيري في مطلع عام 2025، حين أطلق سلسلة من اللقاءات المفتوحة بعنوان: "مكافحة الأوليجاركية"، من هذه الجولة يستخلص الانطباع الأولي الذي يبني عليه أطروحته والتي تقول إن الغضب الشعبي من اختلال النظام الاقتصادي الأميركي واسعٌ وعميق، وأن الإحساس بانسداد الأفق صار مشتركاً بين فئاتٍ مختلفة من المجتمع.. من هنا تأتي نقطة الانطلاق الفكرية للكتاب: أن التفاوت في الدخل والثروة لم يعد مسألة اقتصادية فحسب، بل أصبح تهديدا مباشرا لبنية الديمقراطية ذاتها.
* الفصل الأول
الفصل الأول يحمل الطابع التفسيري، إذ يعرف ساندرز مفهوم الأوليغارشية بوصفها نظاماً تتحكم فيه قلة من الأثرياء في الاقتصاد والسياسة معا، ويستند إلى بياناتٍ وإحصاءات تفصيلية ليُظهر مدى تركّز الثروة في الولايات المتحدة خلال العقود الأخيرة، فهو يشير إلى أن واحداً في المئة من الأميركيين يملكون ما يقارب نصف الثروة الوطنية، وأن ثلاث مؤسسات مالية كبرى هي “بلاك روك”، و”فانغارد”، و”ستيت ستريت” تملك حصصاً في معظم الشركات الأميركية الكبرى، ما يمنحها نفوذاً اقتصادياً يتجاوز أحياناً نفوذ الحكومة نفسها.
كما يشرح كيف أدى اندماج شركات التكنولوجيا العملاقة إلى تشكّل ما يشبه “طبقة حاكمة رقمية” تتحكم في تدفق المعلومات والرأي العام، بما يعزز قبضتها الاقتصادية والسياسية في الوقت نفسه.
* الفصل الثاني
في الفصل الثاني، ينتقل ساندرز، إلى تحليل العلاقة بين المال والسياسة، معتبراً أن قرار المحكمة العليا في قضية Citizens United عام 2010 شكّل نقطة تحولٍ جوهرية سمحت بتدفق أموال غير محدودة إلى الحملات الانتخابية؛ ما أدى عمليا إلى خصخصة الديمقراطية. فالانتخابات، كما يقول، أصبحت ميداناً يتنافس فيه الممولون الكبار على النفوذ عبر مرشحين يمثلون مصالحهم. يقدّم أمثلة من انتخابات 2024 حيث أنفقت مئة عائلة من الأثرياء مليارات الدولارات على تمويل الحملات السياسية، ما جعل التمثيل السياسي خاضعاً فعلياً لقوة رأس المال. هذه العملية، في نظره، أدت إلى تآكل الثقة في المؤسسات وإلى شعورٍ متنامٍ لدى المواطنين بأن النظام لا يعمل لصالحهم.
* الفصل الثالث
الفصل الثالث يحمل عنوانا فرعيا دالا هو "الزعيم كمرآة للنظام"، ويتناول فيه ساندرز، عودة دونالد ترامب إلى الحكم في ولايته الثانية، بوصفها، كما يقول، التعبير الأوضح عن مرحلة “الدمج الكامل بين المال والسلطة”، لا ينظر إليه هنا من زاوية شخصية أو حزبية، بل بوصفه نتيجة منطقية لتطور البنية الاقتصادية والسياسية الأميركية، فترامب، كما يرى، لم يأتِ من خارج المنظومة، بل من قلبها، وقد مثّل التقاء رأس المال المالي والإعلامي مع النزعة الشعبوية التي غذّاها الخوف والاحتقان الاجتماعي.
ويصف ساندرز الحكومة الجديدة بأنها “إدارة المليارديرات”، ويورد تفاصيل عن سياسات خفّضت الضرائب على الأغنياء وألغت برامج اجتماعية بدعوى تشجيع النمو الاقتصادي، في حين أدت عملياً إلى نقل مزيد من الثروة إلى القمة.
ويخلص إلى أن هذه المرحلة كشفت إلى أي حد يمكن أن تتعايش السلطوية السياسية مع الليبرالية الاقتصادية تحت شعار الكفاءة والإصلاح الإداري.
* الفصل الرابع
أما الفصل الرابع، فيتناول ما يسميه الكاتب “الوظيفة السياسية للخوف”، موضحاً كيف تُستخدم الانقسامات الثقافية والعرقية كأداة لصرف الأنظار عن التفاوت الطبقي.
ويشرح أن الشعبوية اليمينية في الولايات المتحدة قامت على تحويل الإحباط الاقتصادي إلى عداءٍ تجاه فئاتٍ بعينها، مثل المهاجرين أو الأقليات أو وسائل الإعلام، ما جعل الصراع الاجتماعي يبدو وكأنه معركة هوية، لا معركة توزيع عادل للثروة.
ويعتبر ساندرز، أن هذه الاستراتيجية ليست حكراً على أميركا، بل تتكرر في العديد من الدول، حيث تتبنى النخب الاقتصادية خطاباً وطنياً أو دينياً لتغطية مصالحها، بهذا المعنى، يصبح الانقسام السياسي أداة استقرار للأوليغارشية لا تهديداً لها.
* الفصل الخامس
في الفصل الخامس، يتوسع التحليل إلى نطاق عالمي، إذ يرى ساندرز أن الأوليغارشية المعاصرة شبكة عابرة للحدود. يورد أمثلة من روسيا والهند ودول الخليج وأفريقيا، ليبيّن كيف يتشابه نمط السيطرة الاقتصادية رغم اختلاف الأنظمة السياسية.
ففي روسيا، يندمج المال بالسلطة عبر الدولة المركزية، وفي الهند عبر الشركات المتحالفة مع الحكومة، وفي الاقتصادات النفطية عبر الاحتكار العائلي للثروة.
وبذلك، كما يقول: صار العالم أشبه بنظامٍ رأسمالي عالمي تديره أقلية ضئيلة من المالكين الكبار. يلفت النظر إلى أن خمسة مليارديرات فقط ضاعفوا ثرواتهم ثلاث مرات خلال خمس سنوات، بينما ازداد فقر مليارات البشر، وأن هذا الخلل يهدد الاستقرار الدولي كما يهدد الديمقراطيات الغربية من الداخل.
هذه المقارنة العالمية تمنح الكتاب بعداً يتجاوز السياسة الأميركية، وتجعل من أطروحة ساندرز تحذيراً من اتجاهٍ اقتصادي عالمي أكثر منها دفاعاً عن مشروعٍ حزبي.
* الفصل السادس
الفصل السادس يأخذ منحى تاريخيا، حيث يستعيد ساندرز، نماذجا من التاريخ الأميركي ليذكّر بأن مقاومة تمركز السلطة الاقتصادية ليست جديدة. يعود إلى الثورة الأميركية ضد الحكم البريطاني، وإلى نضالات الحركة العمالية في القرن التاسع عشر، وإلى حركة الحقوق المدنية في القرن العشرين، ليبرهن أن التغيير الاجتماعي في الولايات المتحدة كان دائماً نتيجة لحركات شعبية قاعدية، لا مبادرات من النخبة.
ويكتب أن كل إصلاحٍ كبير بدأ بوعي جماعي لدى فئاتٍ شعرت بأنها مهمّشة، ثم تحوّل إلى مشروعٍ وطني.
ومن هذه القراءة التاريخية يستنتج أن المواجهة مع الأوليغارشية لا يمكن أن تكون قانونية أو إدارية فحسب، بل تتطلب تعبئة سياسية وثقافية شاملة تعيد تعريف معنى المصلحة العامة.
* الفصل السابع
أما الفصل السابع، وهو الأطول والأكثر تفصيلاً، فيحمل روح البرنامج السياسي العملي الذي يقترحه ساندرز.
ويدعو إلى إصلاحٍ ضريبي يعيد التوازن في توزيع الدخل، وإلى تفكيك الاحتكارات في قطاعي التكنولوجيا والمال، وإلى تمكين النقابات العمالية بوصفها آلية لضبط القوة الاقتصادية.
كما يدعو إلى اعتبار التعليم والرعاية الصحية والسكن حقوقاً أساسية غير خاضعة لمنطق السوق، وإلى تمويل الإعلام العام والمجتمعي لكسر احتكار السردية الإعلامية.
غير أن ساندرز لا يقدم هذه المقترحات في صيغة شعارات، بل يسندها بتحليلات حول أثر السياسات النيوليبرالية منذ ثمانينيات القرن الماضي، وكيف أدت الخصخصة وتقليص دور الدولة إلى تآكل الطبقة الوسطى.
ويصرّ على أن استعادة التوازن بين الدولة والسوق ليست عودة إلى الاشتراكية، بل محاولة لإنقاذ الديمقراطية من الانهيار.
* الفصل الأخير
الفصل الأخير يحمل نبرة تأملية أكثر من كونه برنامجاً سياسياً. يتحدث فيه ساندرز عن مفهوم “الديمقراطية الاقتصادية”، ويشرح أن الحرية السياسية تفقد معناها حين يكون المواطن عاجزاً اقتصادياً.
كما يعيد طرح فكرة أن الإصلاح لا يأتي من قمة السلطة بل من المجتمع المنظم، في إشارة إلى أهمية الحركات الشعبية والاتحادات الشبابية والطلابية.
في هذا السياق يربط بين جيله وجيلٍ جديد من السياسيين التقدميين الذين برزوا في المدن الأميركية الكبرى، ويرى فيهم استمراراً للمشروع الإصلاحي الذي بدأه. ومن أبرز الأسماء التي يتوقف عندها نموذج زوهران ممداني، الذي فاز في انتخابات نيويورك عام 2025، ويعتبره ساندرز أحد رموز “الجيل الاشتراكي الديمقراطي الجديد” الذي يربط بين العدالة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والثقافية.
ويكتب عنه بإعجابٍ متحفظ، واصفا حملته الانتخابية بأنها “علامة على عودة الوعي الطبقي بلغةٍ تناسب القرن الحادي والعشرين”؛ لأن ممداني تحدث عن الإسكان والعمل والرعاية الصحية بلغةٍ تربطها مباشرة بالكرامة الإنسانية، لا بالشعارات الحزبية.
وأشار إلى أن هذا الجيل يمثل، ربما، الجسر بين المثالية اليسارية القديمة والسياسة العملية داخل المؤسسات.
واختتم ساندرز، كتابه بنبرة تجمع بين الواقعية والحذر. فهو لا يدّعي أن تغيير النظام الاقتصادي ممكن في وقتٍ قصير، ولا يقلل من قوة المؤسسات القائمة، لكنه يرى أن البديل عن المحاولة هو القبول بانحسار الديمقراطية إلى مجرد شكلٍ انتخابي.
وكتب في خاتمة مكثفة أن "الخطر الأكبر ليس في قوة الأوليغارشية، بل في اقتناع الناس بأنها لا تُهزم"، لذلك يدعو إلى بناء ثقافة سياسية جديدة تقوم على المشاركة والشفافية والمساءلة، ويعتبر أن أي إصلاحٍ اقتصادي لا يصاحبه إصلاح في الوعي العام سيبقى هشاً.
ونرى أن الكتاب يجمع بين التحليل الاقتصادي والسوسيولوجي من جهة، وبين الدفاع عن الديمقراطية من جهة أخرى.
ولا يقدّم ساندرز نصاً أكاديمياً بالمعنى الصارم، لكنه يوظّف لغة مفهومة للقارئ العام، تجمع بين التوثيق والإقناع الأخلاقي، وتكمن أهميته في أنه يربط بين القضايا الداخلية الأمريكية وبين الاتجاهات العالمية، ليضع ظاهرة صعود المليارديرات في سياق أوسع من السياسة المحلية.
كما يمنح القارئ فرصة لمقارنة تجربة جيلٍ سياسي مثل ساندرز، نشأ في أجواء الحرب الباردة، بجيلٍ جديد مثل زوهران ممداني، ورفاقه من “اليسار الحضري” في الولايات المتحدة، هذا الجيل لا يحمل فقط القيم نفسها، بل يعيد صياغتها بلغة جديدة تتسع لقضايا الهوية والبيئة والمساواة الجندرية، من دون أن يفقد اهتمامه بالجذور الاقتصادية للمشكلة.
وفي النهاية، يمكن قراءة Fight Oligarchy كوثيقة تعكس لحظة مراجعة داخل الفكر الأميركي، أكثر مما تعكس معركة سياسية محددة، إنه محاولة لتفسير التحول من الديمقراطية الاجتماعية التي سادت منتصف القرن العشرين إلى اقتصادٍ مركزي تحت سيطرة الشركات العملاقة، وفي الوقت نفسه نداءٌ مفتوح لعودة السياسة إلى معناها الأصلي تقوم علي النقاش حول العدالة العامة لا حول الأرباح الخاصة.
وبين الجيل الذي يمثله ساندرز، والجيل الذي يمثله ممداني، يمكن رؤية استمرارية في الفكرة الجوهرية ذاتها — أن التقدم لا يقاس بارتفاع مؤشرات السوق، بل بقدرة الناس العاديين على أن يكون لهم نصيب من القرار والثروة والأمل.