تنعقد يوم ١٩ مايو ٢٠٢٣ القمة ٣٢ لرؤساء الدول الأعضاء فى جامعة الدول العربية بالسعودية فى ظروف سياسية متجددة وغير مستقرة، وأمامها عدد من القضايا الهامة والحساسة بالنسبة للعالم العربى، والعالم العربى ودوله فى مرحلة «تطوير وإعادة تشكيل»، كان ذلك فى صياغة المعادلة الاجتماعية الداخلية، وبالنسبة للعلاقات الإقليمية الحالية أو فيما يتعلق بترتيبات مع الساحة الدولية، فغالبية المواطنين فى عالمنا من فئة الشباب ولدوا بعد مرحلة التحرر من الاستعمار، ينتمون إلى عصر العولمة بإيجابياتها وسياساتها، متواصلين على شبكات التواصل الاجتماعى بكل ما تحمله من معلومات هامة وثرية وأخرى مغلوطة ومفبركة وضارة.
وشهدت المنطقة فى العقود الماضية تغيرا جذريا فى التوازنات الإقليمية فى غير صالح العرب، كما تابعنا التغيرات الدولية العديدة، من تفكك الاتحاد السوفيتى وأفغانستان والعراق، مما جعل الولايات المتحدة أقل حماسا واهتماما والتزاما بتوفير ترتيبات أمنية لدول الشرق الأوسط، كما تغيير الدور الروسى وتنامى الدور والنفوذ الصينى، فضلا عن التغيرات الاقتصادية والاجتماعية العالمية الكثيرة.
لا يختلف أحد على أن العالم العربى مر بتجارب صعبة خلال نصف القرن الأخير، من احتلال للأراضى، وعدم الاستقرار، والضغوط والاستغلال الاجنبى وغير ذلك،
والطريق لايزال طويلا لتحقيق الأهداف والتطلعات المنشودة، والتى تتطلب سياسات حكيمة وإدارة رشيدة من الجميع، ونتطلع للاستقرار السياسى فى الجزائر وتونس وفلسطين ولبنان والعراق، ووقف المعارك والوصول إلى توافق مجتمعى سياسى فى ليبيا واليمن، كما أن على الدول العربية واسعة التأثير وعلى رأسها مصر والسعودية تنشيط وتطوير أدوارها الإقليمية فى ظل التحديات الجسيمة التى يتعرض لها العالم.
وأرى بعض المؤشرات الايجابية، وأهمها أن الدول العربية أصبحت أكثر يقينا أن عليها أخذ زمام المبادرة فى التعامل مع القضايا الوطنية والإقليمية لتأمين توازن أفضل فى أوضاعها الداخلية ولتحديث الرؤى وبناء أمل حقيقى لبناء مستقبل أفضل.
كما أشير على سبيل المثال وليس الحصر إلى أن هناك مهادنة بين إيران والسعودية التى أعلنت فى الصين، وسبقتها حوارات عديدة فى العراق وعمان، واتصالات مختلفة لدول خليجية مع إيران، وهناك بوادر تهدئة بين تركيا ومصر مع تبادل زيارات المسئولين وامتداد لوقف إطلاق النار فى اليمن واخبار عن تفاهمات نحو إنهاء النزاع.
وهناك تنوع وتوسع وتطوير فى العلاقات العربية الدولية، بانفتاح واضح على الصين وخاصة من قبل السعودية والإمارات الأقرب تقليديا فى الماضى إلى الغرب، وكذلك بالنسبة لمصر وعدد من دول المغرب العربى، ويتم ضبط وموازنة العلاقات مع روسيا والولايات المتحدة والغرب فيما يتعلق بأحداث أوكرانيا، بتصويت الأغلبية ضد الغزو، مع احتفاظ الكل بعلاقات جيدة مع مختلف الأطراف وإسهام عدد منهم فى الجوانب الإنسانية والإفراج عن الأسرى.
وللقمة العربية بعد أيام قليلة أهمية خاصة، فإذا أنجزت ستغذى من البوادر الإيجابية والثقة العربية، وهى فرصة لبدء إرساء ممارسة عربية متجددة أكثر فاعلية واتزانا، بعد أن تم صد بعض المبالغات والطموحات الأمريكية دون الصدام معها، بما فى ذلك بالنسبة لزيادة إنتاج البترول لتخفيض سعره، وشراء كميات كبيرة من الديزل الروسى فى الوقت الذى وفرت فيه دعما ماليا إنسانيا إلى أوكرانيا، وتم استيراد القمح والمواد الغذائية من الأطراف المتصارعة، ونشط الاهتمام بالانضمام والمشاركة فى المنظومات المحدودة العضوية مثل BRICS وShanghai.
وفى المقابل هناك عدد غير قليل من القضايا الصعبة الحساسة العالقة والتحديات والعقبات أمام توصل العالم العربى إلى أهدافه المشروعة وتحقيق الأمن والاستقرار الإقليمى، وإذا لم تخرج عن القمة نتائج مقنعة بالنسبة لها ستؤدى إلى إحباط عربى عام وتشجع أعداء عالمنا على التمادى فى مواقفهم، وعلى رأسها ضرورة كبح جماح التطرف الاسرائيلى بقتل الفلسطينيين وهدم منازلهم بغية تهجيرهم، وإباحة تعرض المستوطنين للمسجد الأقصى وقيام القوات الإسرائيلية بتدنيسه، وعلى القمة اتخاذ موقف قوى فى هذا الصدد للتأكيد على الرفض العربى والإسلامى لهذه الممارسات وتحفيز المجتمع الدولى باتخاذ إجراءات ملموسة فى هذا الشأن.
وهناك حاجة ملحة أيضا إلى إعادة التوازن العربى الإقليمى، بفتح قنوات الاتصال والحوار بين الأطراف العربية فى المقام الأول وبعدها فيما بين العرب والدول الشرق أوسطية غير عربية، ويتطلب ذلك مجموعة من المواقف والقرارات، منها عودة سوريا إلى الإطار العربى، والتهدئة والتصالح مع إيران وتركيا المحتلين لأراض عربية ومحاولات استغلال الحوار والتطبيع لتغيير الموقف الاسرائيلى المحتل لأراض فلسطينية وسورية ولبنانية.
لذا أرحب وبقوة بقرارات الجامعة بعودة سوريا إلى المنظمة الاقليمية العربية، وآمل أن نتجنب مستقبلا سياسات القطيعة العربية، وفى نفس الوقت لا أرى كافيا أن نعود إلى ما كنا عليه، دون استخلاص الدروس القاسية لتجنب التصرفات والممارسات التى أدت إلى هذه القطيعة، ومن هنا أؤيد ما طرح من مبادرات وخطوات عربية، وخاصة الأفكار الأردنية والسعودية حول التدرج فى اتخاذ الخطوات التبادلية من سوريا وإخوتها العرب ضمانا للجدية وبناء للثقة، فالعودة السورية وممارسات جديدة بعد التقويم مصلحة لسوريا ومصلحة للعالم العربى.
وعلى القمة حث جميع الأطراف المشغولة بالساحة السودانية نحو دعم الاتصالات والاجتماعات التى بدأت فى السعودية بين الاطراف المتنازعة.
وعلى القمة تنشيط التنسيق وبلورة المواقف العربية من قضية إدارة مصادر المياه فى المنطقة، فدول عديدة تعانى من الفقر المائى وعلى رأسها مصر وسوريا والعراق والاردن والاراضى الفلسطينية المحتلة، وهو أمر يتطلب اتخاذ موقف عربى أوسع وأقوى وطرح مبادئ للتعاون الإقليمى الشرق أوسطى فى هذا الصدد، تدعم ولا تنتقص من القواعد الدولية.
وبعد تداعيات جائحة كوفيد وحرب أوكرانيا والدروس المستفادة من الاهمية كذلك أن تراجع الدول العربية نظمها الاقتصادية لتحقيق الاستدامة والتوازن الاقتصادى، بين خيراتها الذاتية وقدراتها الإنتاجية والخدمية، من حيث الخامات والأسواق والاستثمارات، و بأساليب تكنولوجية متقدمة ومتنوعة، وعلى وجهة الخصوص ضمان الأمن الغذائى الوطنى والإقليمى.
وعلى القمة العربية أيضا التعامل مع التفاوت الشاسع بين التزامات ومواقف قدرات دول المنطقة فى مجال أسلحة الدمار الشامل، بتنشيط الجهود لتأمين التزامات دولية أو إقليمية متساوية للدول فى الشرق الاوسط، وإسرائيل لديها قدرات نووية ولم تلتزم بأى من المعاهدات الدولية الخاصة بالأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية ولديها إمكانيات سيبرالية ووسائل إيصال عسكرية هائلة، انضمت إيران لهذه المعاهدات إنما لديها قدرات تكنولوجية عسكرية متقدمة فى هذه المجالات تم تنميتها خلال تطبيق العقوبات ضدها لسنين طويلة، وتركيا لديها قدرات عسكرية وطنية متقدمة وهى عضو فى حلف شمال الأطلنطى..
على الدول العربية بلورة رؤيتها فى الامور الامنية الاقليمية المستقبلية، وهو أمر أصبح أكثر أهمية وعجالة فى ضوء أن الدول الاقليمية ستتحمل المزيد من المسئولية فى ضمان أمنها مع انكماش الغطاء الأمنى للدول الكبرى، بعد أن تحول من ضمان أمنى له مصداقية إلى غطاء أمنى غير واضح ويقتصر على التهديدات الوجودية حسب الحالة والتقدير الأمريكى لما هو لازم، وأقترح مناقشة خلق آليات لوضع محاور رئيسية لبلورة خريطة شرق أوسطية أمنية جديدة فى المستقبل، على خمسة أعمدة رئيسية، حول حل المنازعات السياسية، والتعامل مع الأزمات الطارئة، والحد من التسلح ونزع السلاح، وبناء الثقة، والتعاون، ويهمنى التنويه بشكل خاص إلى أهمية تأمين المنطقة من مخاطر الاسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل، وكذلك الوصول إلى ترتيبات إقليمية لتأمين الممرات المائية المتعددة حفاظا على أمنها واستقرارها وجاذبيتها الاقتصادية..
وختاما أرى أهمية إطلاق القمة لرؤية عربية مستقبلية لمنطقة الشرق الأوسط، ننطلق من خلالها فى حواراتنا مع جيراننا بالمنطقة أو على المستوى العالمى، فانشغال العالم وقلقه من إطلاق حرب عالمية باردة جديدة يُحمل دول كل منطقة مسئولية ضبط أمورها، كما أنها فرصة لتكون لنا اليد العليا فى تشكيل مستقبلنا، وهو جهد يتطلب تكاتف تنشيط مختلف الاشقاء العرب، الكبيرة أو الصغيرة، القوية والأقل قوة، الثرية والأقل ثراء، وهو دور تقليدى لمصر عبر السنين والسعودية باعتبارها رئيسة القمة العربية فى هذه المرحلة التاريخية الحساسة.
وزير خارجية مصر السابق