سلطت الأضواء فى الأيام الأخيرة على قمة الأمم المتحدة السادسة والعشرين حول التغير المناخى والبيئة المعروفة بـ COP26 أى «مؤتمر الأطراف»، وتمهيدا للاجتماع فى اسكتلندا وصف الكثيرون قمة جلاسكو بأنها نقطة فارقة للمجتمع الدولى، وعليه أن يختار فيها بين التعامل الإيجابى والالتزام الجاد بالتوقف عن ممارسات تقضى على بيئتنا الحياتية وتخلق مناخًا يقضى على كل مكتسباتنا، وبين الاستمرار فى الاستهلاك المدمر المفرط لثرواتنا وتوليد الانبعاثات السامة تنتهى بنا حتمًا إلى الفناء، وكان على رأس هؤلاء سكرتير عام الأمم المتحدة جوتيريش الذى حذر من أن العالم يقضى على نفسه لطمعه واستهتاره.
وبعد عودة الولايات المتحدة لاتفاق باريس مع تولى بايدن الرئاسة الأمريكية وتصحيحه قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق تفاءل الكثيرون وارتفعت الأصوات المطالبة بعمل جماعى قوى للتعامل مع التناقض الواضح بين توليد الطاقة من مصادر تقليدية مثل البترول والغاز والفحم وتدمير الغابات والأشجار لأغراض التوسع العمرانى والتنمية، وبين السعى لضمان مستقبل آمن وصحى للأجيال القادمة، خاصة مع التداعيات المناخية الواضحة علميًا وارتفاع درجات الحرارة سنويًا، تأثير كل ذلك على الأمن الغذائى ومصادر المياه والشواطئ...الخ.
واعتقد أن قمة جلاسكو نجحت فى إبراز مخاطر التغير المناخى، وساعدت كثيرًا على تغليب الرؤية العلمية الموضوعية التى تؤكد أن نمطنا الاستهلاكى المفرط مدمر وبالغ الخطورة على المدى الطويل، واسكت الزخم السياسى الممهد لها أفواه المشككين فى التغير المناخى وتداعياته على الأقل على المدى القصير.
ومن ايجابيات القمة كذلك أنها أرست بوضوح وجلاء أن التعامل مع هذا التحدى يتطلب عملا جماعيا وشاملا لأنه لا حدود أو سيادة للتغيرات المناخية والبيئية، فضلًا عن أنه ليس بالإمكان تحقيق النتائج المرجوة دون نظرة تكاملية شاملة لضبط الاستهلاك الطامع، كان ذلك فى مجال الطاقة أو استهلاك مواردنا الطبيعية الأخرى، بما يؤثر على التنوع البيولوجى الطبيعى والهام فى حماية أقدارنا، وفى مجال مكافحة تداعيات سياسات بيئية خاطئة لعقود طويلة وفى ضوء الحاجة إلى تغيير مكونات معادلة الاستهلاك عالميًا وتوفير سبل أقل ضررًا للإنتاج والتنمية فى مختلف أنحاء العالم.
وشهدنا خلال القمة التوصل إلى عدد من التفاهمات الهامة لوقف القضاء على الغابات، والحد من انبعاثات غاز الميثان، والسعى لتجنب الارتفاع الحرارى عن درجة ونصف الدرجة فى العام، والحد من انبعاثات ثانى أكسيد الكربون، وغير ذلك من الانبعاثات السامة.
وإنما شهد خلالها أيضًا تباينا حول عدد من النقاط الهامة، مثل التزامات الدول حول تاريخ الوصول إلى نقطة الصفر فى انبعاثات ثانى أكسيد الكربون، ومنهم من حدد لذلك عام 2030 و2050 و2070، ولم يفِ المجتمع الدولى بالتزاماته نحو الدعم المطلوب لصندوق مالى ضخم لمساعدة الدول النامية على التحول من استخدام موارد الطاقة التقليدية والتكنولوجيات الاستهلاكية القديمة الملوثة إلى الأكثر حداثة، وتسهيل اقترابها من بلورة ودعم منظومة الاقتصاد الأخضر الأكثر احترامًا وصيانة للبيئة والإجراءات المضادة للتغير المناخى، ولا يخفى على أحد أن تباين المواقف عامة حول هذه الموضوعات يرتبط فى الأساس باهتمام الدول بتحقيق معدلات نمو مؤثرة اعتمد الكثير منها على مصادر الطاقة التقليدية الرخيصة وإنما المضرة للبيئة والتغير المناخى، وكذلك من يتحمل تكلفة التحول من تكنولوجيا إلى أخرى، وترى العديد من الدول النامية أو الأقل ثراءً أن «الدعوة إلى إجراءات متساوية بين الدول مع تباين درجة نمو يخدم مصالح الدول الأكثر ثراءً عن غيرها، وينتهى إلى استغلال جهود حماية البيئة لخلق أوضاع غير متساوية وظالمة، وخاصة أن أكبر الضرر وأكثر أسباب تفاقم قضية التغير المناخى كانت السياسات غير الحكيمة والمستغلة للدول الصناعية الكبرى والغنية».
أتفق كثيرًا مع هذه المقولة والدفوعات المرتبطة بها، فتداعيات التغير المناخى ليست وليدة اليوم وأغلبها من تراكمات خلال المائة عام الماضية، وأؤمن أيضًا أن الدول النامية لها حق أصيل فى التنمية وبأقل تكلفة ممكنة، وهو نفس ما تمسكت به الدول الصناعية المستقلة فى الماضى ومع هذا لا أرى جدوى فى إضاعة الوقت فى جدل غير مجدٍ حول وقائع ثابتة، كان ذلك بالنفى من قبل الدول الصناعية أو بالعتاب من قبل الدول النامية، لأننا سندفع جميعًا الثمن غاليًا من عدم التصدى العاجل للتغيير المناخى وسوء استغلال بيئتنا الحياتية.
وأفضل أن نتمسك بأن يوفى المجتمع الصناعى والثرى بالتزاماته لتمكين الدول النامية من التحول إلى مصادر طاقة غير مضرة للبيئة منها الطاقة المتجددة، والتى لازالت أسعارها مرتفعة نسبيًا مقارنة بالبترول والغاز والفحم، ويجب أن يوجه الدعم أيضًا إلى تطوير صناعاتها الإنتاجية إلى تكنولوجيات أكثر حداثة وأقل ضررًا للبيئة، وأضيف إلى ذلك أهمية تجاوز هذا الدعم مجرد توفير موارد قابلة إلى المساعدة فى نقل وتوطين التكنولوجيا النظيفة إلى الدول النامية بأسعار زهيدة، حتى لا تنتهى قضية البيئة هى الأخرى إلى معادلة تجارية بين الغنى المصنع والأقل نمو المستهلك، ويترتب عليها مزيد من اعتماد طرف على الآخر، بدلًا من أن تكون العلاقات صحية وتكاملية، كما أوصى أن تشكل الدول الأوروبية فى إطار التجمع الأوروبى المتوسطى ومقره برشلونة صندوقًا خاصًا لدعم الدول النامية المطلة على البحر الأبيض ومن حوله، للتعامل مع تداعيات التغير المناخى فى هذه المنطقة التى شهدت معدلات ارتفاع درجات الحرارة تتجاوز 20٪ عن المعدلات العالمية، وأرى ضرورة إنشاء صندوق خاص آخر مدعم دوليًا لصالح الدول الأفريقية، لتتبنى وتعتمد على تكنولوجيات حديثة ونظيفة فى سعيها الدءوب للحاق بقطار التنمية، خاصة ومعدلات التنمية متنامية فيها بعد أن عانت عقودًا طويلة من ويلات الاستعمار، واقترح إعداد الأمم المتحدة ومؤسساتها المتخصصة المعنية بالتغير المناخى دراسة عاجلة بعد انتهاء القمة لتقييم الالتزامات الجديدة ومدى الانجاز والمجالات المطلوب التحرك سريعًا فيها، كل ذلك مجرد اقتراحات مبدئية وغير مكتملة وإنما من المناسب النظر فيها بجدية خاصة وعرضت مصر استضافة القمة البيئية القادمة COP27، وأعلنت أنها ستعجل من اعتمادها على الطاقة البديلة وبحيث تشكل ٤٦٪ من استهلاكها خلال العقد القادم.
نبيل فهمى
وزير خارجية سابق