«عيد ميلاد سعيد».. صورة واقعية للطبقية وانكسار أحلام الطفولة - بوابة الشروق
السبت 18 أكتوبر 2025 8:44 م القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

«عيد ميلاد سعيد».. صورة واقعية للطبقية وانكسار أحلام الطفولة

خالد محمود
نشر في: السبت 18 أكتوبر 2025 - 6:36 م | آخر تحديث: السبت 18 أكتوبر 2025 - 6:37 م

دون شك يتطلب إخراج فيلم يرصد المعاناة الطبقية من خلال نظرة طفل تعاطفا خاصا، وفهما للبراءة.. لا كحيلة سردية، بل كواقع ننجذب إليه بكل مشاعرنا وهواجسنا، وهو ما فعلته تماما ونجحت فيه المخرجة سارة جوهر فى فيلمها الروائى الأول «عيد ميلاد سعيد»، الذى عرض فى افتتاح مهرجان الجونة السينمائى وشاركت فى كتابته مع محمد دياب، فهو يسمح لنا بالانغماس فى أحلام الطفولة عبرعالم توحة «فى الثامنة من عمرها» تلك الفتاة المتجذرة فى عالمها الخاص من العمل والالتزامات، لدرجة أن مجرد الاحتفال بعيد ميلادها يبدو مفهومًا غريبًا، فهى تعمل خادمة فى منزل من الطبقة الراقية تسعى لاتمام مهمة إقامة حفل عيد ميلاد مثالى لابنة صاحبة عملها، نيللى، بينما تتوق سرًا إلى احتفال خاص بها.

ببراعة مؤثرة من الممثلة الصغيرة ضحى رمضان، تتكشف رحلة توحة على خلفية هادئة من عدم المساواة ، متنقلة بين العبودية والصداقة وأحلام الطفولة الصامتة.

يبدأ الفيلم بفتاتين تضحكان فى غرفة نوم، إحداهما توقظ الأخرى برفق فى منتصف الليل، استعدادًا لحفلة عيد ميلاد نيللى متحمسة - إنه عيد ميلادها - وتساعدها توحة، بمزيج من المسئولية والفرح، فى الاستعداد لهذا اليوم. فى البداية، تظن أنهما أختان، لا تتجاوزان الثامنة من العمر، علاقتهما الحميمة سلسة تتشاركان الأسرار، يكشف حماسهما المرح وضحكاتهما وشعورهما المشترك بالهدف عن رابطةٍ وثيقة.

لكن مع بزوغ الفجر، تتضح الصورة الحقيقية.. نيللى ابنة عائلة ثرية فى القاهرة، توحة ليست أختها، بل هى الخادمة.

هذا الفهم الخاطئ المبكر هو كل شىء، إنه يُهيئك لرؤية العالم من خلال عيون توحة - كيف اندمجت فى هذا المنزل، وكيف تعتنى بجدة نيللى المريضة، وتغير أنابيب الغاز، وتؤدى كافة المهمات، ومع ذلك دائمًا ما تكون خارج الإطار عندما يكون الأمر مهما. عندما تذكر نيللى عيد ميلادها القادم عرضا وأنها تتمنى لو تستطيع تناول الآيس كريم كل يوم، تركز توحة على كلمة واحدة «أمنية؟.. ما هذه؟

بينما تحاول نيللى شرح مفهوم التمنى، لا تزال توحة فى حيرة، تسأل، وعيناها تضيقان فضولًا: «كدعاء؟». فى تلك اللحظة، يتغير شىء ما.. فكرة أن المرء يستطيع أن يرغب فى شىء يبدو غريب عليها. فجأة، تكتسب تلك اللقطة المقربة الأولى لدمية توحة وهى تمسك بها وزنا جديدًا. انس حقيقة أنها لم تحتفل بعيد ميلادها قط، ناهيك عن عدم معرفة تاريخ ميلادها. ها هى فتاة لم تتعلم أبدًا كيف تتمنى أى شىء، لمجرد أنها لم تعتقد أنه مسموح لها بذلك.

تتطور القصة بسلاسة، وإن كانت مؤلمة من تلك اللحظة، والدة نيللى المشتتة «نيللى كريم» والتى على وشك الانفصال وتغيير المنزل تُقنع توحة بترك الحفل، من أجل صديقتها لأنه غير لائق أن تكون واحدة مثلها بالحفل، فيما كل ما تطلبه توحة فى المقابل هو أن تُبقى شمعةً واحدةً جانبًا لتتمكن من تحقيق أمنيتها الأولى.. إطفاء شمعة واحدة فقط بتلك الليلة، وتكشف رغبتها فى أن تكون جزءًا من عائلة نيللى، الأم حائرة، لا تعرف كيف ترد فى تلك اللحظة الحرجة، هناك وميض من الشفقة، فهى لا تريد أن تكون صريحة تمامًا مع الطفلة الصغيرة، لكنها أيضًا تريدها خارج المنزل تلك الليلة.. لم تستوعب توحة بعد التسلسلات الهرمية الاجتماعية القائمة أو الدور الذى يُفترض أن تلعبه كخادمة. تُركز بشدة على إسعاد صديقتها لدرجة أنها لا ترى جميع الأدلة التى تكشف عن حقيقة نظرة الأسرة والمجتمع إليها.

اللافت للنظر هو كيف لم تدع سارة جوهر هذه اللحظة تتحول إلى ميلودراما، فهى تُخرج الفيلم كشخصٍ يُدرك أن عدم المساواة، حين يُستوعب فى الصغر، لا يعالج بغضبٍ مُبرر، بل بارتباكٍ هادئ. وضحى رمضان ، بدور توحة، تقدم هنا أداءً مُبهرا. أداؤها مبهج، عنيد، وعميق المشاعر.. إنها بارعة، وعزيمتها تُشبه الكوميديا الفطرية وهو ما وجدناه فى أكثر من مشهد عند مواجهة مواقف جديدة معمقا الأداء مثلما حدث بجولتها بمراكز التسوق وشراء زينة أعياد الميلاد، حيث تتلاشى تلك الفرحة، حينما يرفض بائع الفساتين السماح لها بتجربة فستان، وتدرك أنه لم يكن من المفترض أن تُرى فى الحفلة، إنه لأمر مؤلم للذات أن لا تظهر كشخص يستحق الاحتفال.

يصبح فيلم «عيد ميلاد سعيد» أكثر من مجرد قصة عن العمل المنزلى أو الطفولة، إنه صورة للنظام الطبقى الرمزى حيث لا يقتصر الثراء على الراحة فحسب، بل يفرض سيطرته على السرد. يتضح ذلك فى القواعد غير المعلنة: من يأكل أولا، ومن يتحدث عند وجود الضيوف، ومن يُسمح له بالظهور أو الاختفاء فى المناسبات. هذه ليست مجرد طقوس للباقة، إنها جزء من نظام موروث، تشكله عقود من الاختلال الاقتصادى والاجتماعى غير المتكافئ.. الجدران التى تفصل عائلات مثل عائلة نيللى عن عائلات مثل عائلة توحة ليست معمارية فحسب، بل أخلاقية وعاطفية.

تُركز الكاميرا على المساحات: ممرات منزل ليلى المُبلطة التى تعكس عالمها الثرى فى مقابل المطبخ الرطب والضيق لمنزل توحة حيث تُفرغ نادية والدتها «حنان مطاوع» الأسماك التى تصطادها بكد، وهنا المونتاج هادئ ولكنه مُتأنٍّ، مما يسمح لنا بالشعور بالاختلاف.

ومع ذلك، لا يُلقى الفيلم موعظةً قط، فالتناقض حاضرٌ دائمًا ظاهريًا فى الصورة بهذا المعنى، يبدو فيلم «عيد ميلاد سعيد» أقرب إلى مرآة منه إلى نقد، فهو لا يُجادل، بل يعكس عالما وواقعا يدعو للتأمل ورؤية ساحرة بفضل السيناريو المحكم والذكى، حيث يعتمد فيلم سارة جوهر على محدودية مفردات بطلته ومنطقها العاطفى، مما يسمح لنا بالشعور بالفجوة بين ما تشعر به توحة وما لا تستطيع التعبير عنه مازجة بمهارة بين النبرة المرحة والبسيطة لمنظور الطفل والنبرة الواقعية لاكتشافها للظلم وعدم المساواة فى عالم الكبار، حيث تصطدم مشاعر توحة بجدار الواقع وتنطفئ فجأةً، كما تنطفئ الشموع على كعكة عيد ميلاد.

تُدرك توحة أنها من عائلة فقيرة، لكنها تجد متعة فى التفاصيل الصغيرة، كالهروب إلى مسبح فارغ، والاستلقاء على ظهرها والانغماس فى خيالاتها، ربما كأنها تسبح بحرية فى محيط. توحة فى سن ربما تُدرك فيه للحظات التحيز الطبقى الاجتماعى، لكنها تعتقد أن صداقتها مع نيللى مثال على أن هذا التحيز لا ينطبق على جميع العلاقات.

تحمل أغنية «عيد ميلاد سعيد» عبء مجتمع بأكمله - الطبقية، وعمالة الأطفال، والعادات الموروثة.. تتسلل إليك مشاعرالأسى بشمعة واحدة غير مُضاءة.

ما يجعل «عيد ميلاد سعيد» مؤثرًا أكثر هو أن توحة لا تغضب أبدًا، فهى لا ترفض منزلها المتهالك، ولا تسخر من الصيد اليدوى القاسى الذى تقوم به أمها، ولا تنزعج من المياه العكرة حيث تقفز مع إخوتها بالمياه من أجل صيد السمك، حتى بعد أن ذاقت طعم عالم الأطعمة المريحة والأسرة المريحة والغرف المكيفة، لا تشمئز من العالم الذى أتت منه. الرغبة ليست فى استبدال أحدهما بالآخر، بل فى استعادة شىء ما. تلك الشمعة الصغيرة، المضاءة التى تمنتها، كانت ستعنى الكثير.

رغم إتقان جميع الممثلين لأدوارهم، إلا أن فيلم «عيد ميلاد سعيد» ما كان ليحظى بهذا الاحتفاء لولا أداء ضحى رمضان الرائع، فهى جوهر الفيلم وروحه، تحتضن الفرح أينما وجدته، وذلك شعور عظيم .

كان أداء حنان مطاوع مدهشا وملهما ورائعا فى دور أم توحة الأرملة نادية التى تعيش فى فقر مدقع فى مخيم صغير مع أبنائها الخمسة القاصرين (أحدهم رضيع)، وتكسب رزقها من صيد السمك وبيعه، وهى دائما مثقلة بمسئوليات تعكس الوجه الآخر للحياة، بينما قدمت نيللى كريم دور الأم الثرية المطلقة بسلاسة، تسعى لتحويل القلق إلى أمل، بمساعدة أمها حنان يوسف، وكذلك بدت ملامح براءة أداء خديجة أحمد فى دور نيللى ملموسة.

مع نهاية 90 دقيقة مؤثرة، يبقى عيد ميلاد سعيد أحد أفضل الأفلام التى شاهدتها فى عام 2025 حتى الآن. ليُمثل نقطة تحول وانطلاقة ليس فقط لسارة جوهر، بل للسينما المصرية المعاصرة وقد منحه التصوير السينمائى الرائع، بقيادة سيف الدين خالد، والمونتاج الدقيق والمُحكم عاطفيًا لأحمد حافظ، إيقاعًا شاعريًا خاليًا من المشاعر، مما سمح للجوهر العاطفى للقصة بالتأثير بقوة هادئة.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك