فى أقل من عامين ترى العالم وهو يواجه عاصفة كاملة تلو الأخرى، فجاءت العاصفة الأولى فى أعقاب إعلان منظمة الصحة العالمية فى الحادى عشر من مارس 2020، أن تفشى فيروس كورونا المستجد المسبب لمرض «كوفيد ــ 19» قد وصل إلى مستويات الجائحة العالمية. ومنذ هذا التاريخ أصابت «كورونا» أكثر من 500 مليون إنسان بالمرض، توفى منهم ما يزيد على 6.2 مليون حول العالم، وكانت أكثر الإصابات والضحايا ارتفاعا فى الولايات المتحدة يليها الهند والبرازيل ثم فرنسا وألمانيا. ويلاحظ تباين نسب التعافى والشفاء حتى بين الدول الأعضاء فى مجموعة العشرين بناءً على عوامل متعددة، منها قدرة استجابة النظم الصحية وفاعليتها فى مواجهة تداعيات المرض مبكرا ومدى انتشار اللقاح وتوفر العلاج.
وصاحبت الجائحة أزمات اقتصادية بانكماش فى الناتج العالمى وزيادة فى البطالة وتزايد أعداد البشر الذين يعانون من الفقر المدقع، مع ارتفاع حدة التفاوت فى الدخول والثروات، فضلا عن تضخم المديونيات الخارجية التى كانت مرتفعة أصلا قبل الجائحة فيما عُرف بالموجة الرابعة للمديونية.
وقد صدر مؤخرا لكاتب هذه السطور كتاب بعنوان «فى التقدم: مربكات ومسارات»، وأقتبس من مقدمة أحد فصوله عن تداعيات «كورونا» ما يلى «أتت جائحة كورونا فاختبرت قدرات الأمم على التعامل مع المربكات الكبرى ومدى استعدادها لها. ويستشرى معها انتشار نظريات المؤامرة والخرافات. وتبين أن العالم مع الجوائح بين إنكار وإهمال لها قبل وقوعها وهلع وارتباك بعد وقوعها. ولا ينجو منها الناس بفضل ربهم إلا بالعلم والمال». وبعدما تسابق أهل العلم فى تطوير اللقاح وساعدت مؤسسات المال فى توفيره إنتاجا وتوزيعا فى البلدان المتقدمة وتمت إتاحته فى البلدان الأخرى، مع تباين شديد بين الدول الأغنى والأفقر، لاحت آمال للبعض بأن عام 2022 هو عام الغوث والتعافى من آثار الجائحة بعد سنتين عجفاوين. واُستشرفت قبل بداية العام عودة لمعدلات النمو الموجبة تدفع بالاقتصادات لمسارات تلتئم فيها إصابات أسواق العمل والتجارة، إلا أن ضربات متلاحقات من الأزمات الجيوسياسية وصدمات فى سلاسل الإمداد وتراجع العرض من السلع والخامات الأساسية والخدمات سببت ارتفاعات حادة فى معدلات تضخم الأسعار قبل اندلاع الحرب فى أوكرانيا.
ومع إرهاصات هذه العاصفة الكاملة الجديدة ظهرت تحديات كبار للسياسات الاقتصادية فإجراءات السياسة المالية العامة مقيدة الحركة بارتفاعات غير مسبوقة فى الإنفاق العام وزيادة عجز موازنات الدول التى أنهكتها إجراءات مواجهة الجائحة وتداعياتها الاقتصادية والاجتماعية. كما أن أدوات السياسات النقدية الواجب تسخيرها لمواجهة التضخم تأخر تفعيلها ترقبا لإجراءات لبنك الاحتياطى الفيدرالى الأمريكى الذى أضاع وقتا ثمينا فى جدل حول إذا ما كان التضخم عارضا مؤقتا لا يستدعى رفعا لأسعار الفائدة، أم مستمرا يستوجب التدخل السريع. فلما تبينت عاقبة التأخير سارع بنك الاحتياطى الفيدرالى بإرسال إشارات للأسواق بما هو مقدم عليه من رفع عاجل لأسعار الفائدة على مدار الفترة القادمة ثم أرسل إشارات أخرى للسيطرة على التوقعات بمزيد من التضخم تظهر أن السياسات النقدية الأمريكية ستكون أكثر تقييدا، برفع أعلى وأسرع لأسعار الفائدة، بما سبَّب تقلبات أشد حدة فى أسواق المال وجعل التدفقات المالية خاصة قصيرة الأجل منها والساخنة تفر من البلدان النامية تاركة وراءها اضطرابات فى أسعار الصرف وتهديدات بزيادة مخاطر مديونياتها الخارجية. ومع هذا ستظل معدلات النمو الاقتصادى فى الولايات المتحدة فى اتجاه يعزز استعادة وتيرة التعافى، وإن كان ذلك بمعدلات نمو أقل من المتوقع لها منذ عام، ولكنها أعلى نسبيا من أغلب الاقتصادات المتقدمة التى لن تزيد على 3.5 فى المائة فى أفضل التقديرات.
أما الصين، فهى صاحبة الاقتصاد القادم بقوة للصدارة؛ رغم بعض المربكات، منها تعرضها مؤخرا لموجة جديدة معدية لفيروس كورونا، أجبرتها على إغلاق جزئى فى ظل اتباعها استراتيجية «صفر كورونا» بما أثر سلبا على طلب المستهلكين والاستثمار ومن ثم معدل نمو الناتج الصينى، وبالتالى الناتج العالمى بحكم وزن الصين المتنامى فى معدلات نموه على مدار العقدين الماضيين. ولكن الاقتصاد الصينى يتمتع أكثر من غيره بمرونة فى استخدام أدوات السياسات المالية العامة والنقدية، بما فى ذلك الدفع بحزم تحفيزية إذا أرادت الإدارة الاقتصادية الصينية لها تفعيلا، خاصة بعد استقرار السوق العقارية وانخفاض معدلات التضخم فى الصين عن شركائها التجاريين. ورغم تراجع معدلات النمو فى الصين، فإنها ستظل أعلى من متوسط معدلات النمو فى الأسواق الناشئة وكذلك الاقتصادات المتقدمة.
أما مجموعة دول اليورو فتواجه تحديات تراجع الإنتاجية وتفاوت الدخول، والخلل الديموغرافى والمواجهة المباشرة لتوترات سياسية تصاعدت لحالة صراع عسكرى يهدد أمنها شرقا، مع وضع حد للاعتماد الكبير على الغاز الروسى، بما يستوجب إجراءات لإعادة الهيكلة والتنويع لمصادر الطاقة مصدرا ونوعا بما سيربك نمو صناعات وقطاعات بعينها. سيؤدى هذا إلى مزيد من الانخفاض والتباين والتقلب فى معدلات نمو اقتصادات دول اليورو التسع عشرة من أصل 27 دولة تشكل الاتحاد الأوروبى. ولا تظهر المملكة المتحدة بعد انفصالها عن الاتحاد الأوروبى أو اليابان بمعدلات نمو تؤكد تمام التعافى، لتأثرهما باضطراب سلاسل الإمداد، فضلا عن مشكلات تتعلق بارتفاع معدلات التضخم والضرائب فى الأولى، وهشاشة مصادر التعافى فى الثانية باعتمادها على طلب استهلاكى متذبذب.
ويؤكد هذا المشهد لتوقعات النمو ومساراته بين البلدان المختلفة، ما أكده كتاب المربكات فى مطلعه من أن «الأمم فى سباق مستمر، وهى فيه حتما سواء بإرادتها أو رغما عنها. وسباق الأمم لا يتوقف للحظة ولا يعنيه من يتقدم فيه أو يتأخر ولا يكترث بمن يصمد فيه أو يترنح. ولا مجال للصدارة فيه لمن يتخاذل أو يكتفى بلوم قواعد اللعبة أو التنديد بما فيها من غبن أو تلاعب. فالتقدم اختيار وإرادة».
وقد ضربت موجات التضخم وأزمات أسعار الوقود والغذاء والتحديات المالية وإدارة المديونية الخارجية بدول نامية فى أقاليم متفرقة بما يهدد نمو اقتصاداتها بتراجع ملموس يؤخر عودتها لمسارات الناتج قبل الجائحة باستثناء بعض الدول المصدرة للنفط والغاز والسلع الأساسية، التى عليها رغم تحسن معدلات نموها إدارة التقلبات الحادة فى أسعار سلعها المصدرة وتأثيرها على عدالة توزيع الدخل والتضخم. ولا يحظى كثير من الدول الأفريقية والعربية باستثناءات من هذا الوصف إلا من أتبع سياسات حصيفة تعينها على التعامل مع الموجات المتقلبة لأسعار صادراتها ووارداتها، وإدارة ملفات الديون الخارجية وتحجيم مخاطرها المحدقة واستعادة التعافى لاقتصاداتها بمعدلات نمو أكثر شمولا وأعلى ارتفاعا عما هو متوقع لأكثرها فى العامين الحالى والمقبل.
وتظل المشكلة الكئود لكثير من البلدان العربية والأفريقية كامنة فى نوعية النمو، بمعنى أن تصاحب معدلات النمو الظاهرة ارتفاعات مناظرة فى معدلات التشغيل وتحسن فى الدخول الحقيقية وهو ما يستلزم، وفقا للكتاب المذكور، سياسات جديدة للنمو فللتعامل مع المربكات المعترضة سبيل التقدم تحتاج الأمم إلى الاستثمار فى رأس المال البشرى والبنية الأساسية والتكنولوجية وفى سبل الوقاية من الصدمات. ولكننا نعانى اليوم من انفصال بين مسارات الاستثمارات المطلوبة للتنمية وما يدور فى أسواق المال بما يستدعى نهجا جديدا للإصلاح.
كما يستوجب التغير فى طبيعة العولمة والانتقال التدريجى لمركز الجاذبية الاقتصادية نحو نصف العالم الشرقى، تعاونا إقليميا عربيا على نحو ما نراه مثلا فى دول الآسيان. فكما أشار كتاب المربكات لا يوجد ما يمكن أن نطلق عليه اقتصادا عربيا، فنحن بصدد اقتصادات متباينة الأداء ضعيفة الترابط رغم وفرة متطلبات تحقيق طفرات فى التجارة البينية وتدفق الاستثمارات والعمالة. التعاون العربى ضرورة للتقدم تحتمه تحديات المستقبل وتيسره وحدة الجغرافيا وتعوقه مربكات سياسية.
للتعامل مع العاصفة الكاملة المستجدة فى الأجل القصير ستطالع توصيات بديهية لتقارير دولية منادية بإنهاء الحرب فى أوكرانيا فورا، وربما تحمست فذكرت مناطق أخرى لصراعات دامية. وستناشد التوصيات استكمال التصدى للجائحة الصحية التى سببت عاصفة 2020 وتداعياتها، والتعامل مع ارتفاعات الأسعار قبل مزيد من استفحالها الذى سيؤدى بدوره إلى اتباع سياسات نقدية ومالية عامة أكثر تقييدا وتقشفا، بما يدفع إلى ركود دون القضاء على التضخم بالضرورة فننتهى إلى موجة عاتية من الركود التضخمى تزيد العاصفة الكاملة دمارا وعنفا. كما ستطالع حديثا، بلا أفعال مجدية تذكر، عن ضرورة علاج مشكلات المديونية الدولية قبل أن تتحول لأزمات مجتمعة أو متناثرة تضاف إلى قائمة المتعثرين من البلدان النامية منخفضة ومتوسطة الدخل. وستقرأ تحذيرات كثيرة من عواقب إهمال تغيرات المناخ وتراجع الاستثمار فى التخفيف منها والتكيف مع آثارها، دون أن تظهر ومضات لمصادر تمويلها الموعود. وستكثر مناشدات عن أهمية التعافى الأخضر الذكى المتوازن إلى آخر هذه النعوت، التى قد يستجاب لها ببعض التعهدات بلا إلزام يذكر أو توقيت محدد، بما يستوجب الحرص فى التعامل معها وضبط التوقعات بما يستحقها والمطالبة بالشفافية والإفصاح وتفعيل آليات المحاسبة حتى يمكن استعادة الثقة بعد عهد طال من إخلاف الوعود. وفى كل الأحوال يذكرنا كتاب المربكات المشار إليه بأنه «فى سباق التقدم تتنوع المربكات وآثارها. وقد تسبب المربكات أزمات تتعلق بالأوبئة أو بتغيرات المناخ أو بتقلبات سياسية حادة أو بصدمة اقتصادية مفاجئة أو بمستحدثات تكنولوجية. وتشترك المربكات فى ضرورة الاستعداد لها والمرونة فى التعامل معها. ويفوز فى النهاية من يستغلها لصالحه».
....
نقلا عن «الشرق الأوسط»