عند التحدث عن سياسات النظم الشمولية أو الديكتاتورية، والكتابة عنها فبالتأكيد أول من سيخطر لنا هو الكاتب البريطاني جورج أورويل، وفي ذكرى ميلاده يفرض أورويل نفسه كشخصية مستعادة في الكتابة السياسة بشكل دائم.
ولد إريك آرثر بلير، والذي سيعرف بعد ذلك بجورج أورويل في 25 يونيو من عام 1903، ورحل في 21 يناير من عام 1950.
بين الميلاد والموت، عاش أورويل حياة قصيرة لو قيست بالسنوات، لكنها حياة ممتدة أثريا وتأثيرا، لم يكن مجرد روائي أو صحفي، بل كان ضميرا أدبيا يسائل العالم، ويقف عند مفارق التاريخ ليكتب ضد التيار، مسلحا بالصدق، مهما كان الثمن، كان يؤمن أن "قول الحقيقة في زمن الخداع عمل ثوري"، ولم يكف عن هذا الفعل حتى وهو يحتضر.
ولد أورويل في الهند البريطانية لعائلة إنجليزية من الطبقة المتوسطة الدنيا، والده كان موظفا صغيرا في إدارة الأفيون، وهي بداية لا تخلو من الرمزية: أورويل ابن منظومة السيطرة الكولونيالية، لكنه انقلب عليها مبكرا.
درس في مدارس نخبوية قاسية جعلته يحتقر الامتياز الطبقي، ثم سافر لبورما ضابطا في الشرطة الإمبراطورية، وهناك رأى بعينيه الوجه العنيف للاستعمار.
لاحقا سيكتب عن تلك التجربة في مقالاته الشهيرة، مثل "إطلاق النار على فيل"، حيث تبدأ نزعته النقدية الحادة ضد كل سلطة قهرية، حتى لو بدت قانونية أو مألوفة.
لم يكن أورويل ابن مكتبات ولا صالونات، كتب من الشارع، من الأرصفة، من بطن الفقر، عمل غاسل أطباق في باريس، ومتشردا في لندن، ونشر تجربته في كتابه الأول "متشرد في باريس ولندن" 1933.
لكنه لم يكتف بالرصد الاجتماعي، بل انحاز مبكرا للمظلومين، وبدأ مشروعه الأكبر أن يعري السلطة لا فقط من خلال التنظير، بل عبر التجربة.
في كل مرحلة كان يعيش الحياة التي يكتب عنها ذهب إلى المناجم ليكتب عن العمال، وسكن بين المعدمين ليكتب عنهم، ورفض أن يكون الكاتب منفصلًا عن الواقع.
في 1936، انضم أورويل إلى الميليشيات اليسارية في الحرب الأهلية الإسبانية، للقتال ضد فاشيي فرانكو. لكنه هناك تعرّض لأول مرة لصدمة عميقة بعض فصائل اليسار خانت رفاقها، وقتلتهم، ولفّقت لهم التهم، السلطة حتى حين تدّعي أنها "ثورية" قد تتحوّل إلى وحش.
كتب عن هذه التجربة في كتابه القوي تحية إلى كاتالونيا (1938)، حيث لم يتردد في فضح التجاوزات اليسارية، ما جعل بعض الصحف "التقدمية" تقاطعه.
ومن هنا بدأ أورويل حربه الخاصة ضد "الإيديولوجيا العمياء"، وبدأت تتبلور نزعته العادلة أن يقف ضد القمع أيا كان مصدره، يمينا أو يسارا.
في عام 1945، نشر أورويل روايته الرمزية الأشهر مزرعة الحيوانات، التي أعاد فيها سرد الثورة البلشفية بشكل ساخر ومفزع. الحيوانات التي تطرد الإنسان المستبد، تتحول لاحقا إلى نسخ أكثر عنفًا منه.
"جميع الحيوانات متساوية، لكن بعضها أكثر مساواة من الأخرى." جملة واحدة، تلخص حال كل الأنظمة الشمولية التي رفضها أورويل.
أهم محطة في مشروع أورويل الكتابي في تفكيك الديكتاتوريات جاءت في روايته الأشهر "1984"، روايته السوداء عن عالم المستقبل، حيث تُمحى الحقيقة، ويُعاد تصنيع الذاكرة، وتُخترع اللغة لخدمة السلطة، كانت الرواية نبوءة عن "الأخ الأكبر"، وعن "وزارة الحقيقة" التي تمتهن الكذب.
كتبها أورويل وهو يحتضر حرفيا، يعاني من السل، معزولا في جزيرة نائية، كانت رؤياه شديدة القسوة، لكن الأشد منها أنه كان يكتبها بدافع الحب حب الإنسان، ورفض سحقه، والخوف من اليوم الذي يصبح فيه الإنسان آلة، بلا مشاعر، بلا ماض، بلا قدرة على التمرد.
لم يكن أورويل يهاجم الأنظمة فقط، بل اللغة نفسها حين تصبح أداة تزييف، في مقالته الشهيرة "السياسة واللغة الإنجليزية"، يشرح كيف تتحول الكلمات إلى غلاف يُخفي القتل، وكيف تُستخدم اللغة البيروقراطية لتبرير المجازر، وكيف يصبح "الاستعمار" مهمة تمدينية، و"التعذيب" إجراء أمنيا.
كان يرى أن انهيار اللغة هو بداية انهيار الإنسان، وإذا ضاعت المعاني، يصبح القتل مجرد خبر عابر، والحرية شعارا فارغا، والناس أرقاما بلا سياق.
يحض أورويل في واقعنا الآن لأننا نعيش واقعا لم يعد بعيدا عن نبوءات أورويل، في زمن "الحقائق البديلة"، و"الحياد الزائف"، لا يزال أورويل يذكرنا بأن الوقوف على الحياد في وجه الظلم جريمة، ولأن كل ما حذر منه المراقبة، تطويع اللغة، تزوير الوعي، قد أصبح واقعا يصعب الهروب منه.
ولأن أورويل لم يكن كاتب نبوءات، بل كاتب ضمير، ضمير يرى، ويكتب، ويُحذر، حتى لو لم ينجُ بنفسه.
"كل سطر كتبته منذ 1936 كان ضد الاستبداد"، هكذا لخص أورويل نفسه، لم يكن كاتبا يؤرخ لما جرى، بل كاتبا يحارب بالقلم قبل أن يحدث الأسوأ، وفي زمن أصبحت فيه الكتابة ترفًا، يبقى أورويل صوتا ضروريا.
في ذكرى ميلاده، نعيد قراءة أورويل لا لنؤرخ لرجل مات، بل لنستعيد سلاحه الوحيد الكتابة، حين تكون في خدمة الحرية، لا السلطة.