أشادت مراجعة نقدية حديثة خاصة بصحيفة «النيويورك تايمز» بكتاب المؤرخة الأمريكية لين أولسون بعنوان «إمبراطورة النيل: عالمة الآثار الجريئة التى أنقذت معابد مصر القديمة من الدمار» الصادر عن دار نشر «بنجوين راندوم هاوس» فى الثامن والعشرين من شهر فبراير الماضى والذى نقل قصة حياة عالمة الآثار الفرنسية كريستيان ديروش نوبلكورت التى كان لها دور ريادى فى مصر وتمكنت بفضل جهودها الميدانية من إنقاذ الآثار المصرية من الغرق بفعل فيضانات السد العالى.
فى البداية، استهلت المراجعة بذكر حقيقة أن العمل فى مجال الآثار فى مصر كان دائمًا يُنظر له على أنه من طراز «للرجال فقط»؛ ولم يكن أبدًا مهنة تمتاز بتكافؤ الفرص؛ فلقد هيمن الرجال على هذا المجال منذ بدايته، بدءًا من المستكشف الإيطالى ومتخصص الأثريات جيوفانى بلزونى الذى اكتشف المدخل المخفى للهرم الثانى فى الجيزة عام 1818، مرورًا بالمستكشف البريطانى هوارد كارتر الذى ذاع صيته عالميًا بعد اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون، انتهاءً بعالم الآثار المصرى زاهى حواس الذى هيمن على المجال لسنوات طويلة وكان ابتعد عن الصورة مؤقتًا بسبب إثارة بعض المزاعم عن فساد أعماله خلال فترة الربيع العربى التى أعقبت سقوط حكم الرئيس المصرى الراحل حسنى مبارك ولكنه عاد بقوة فى ظل النظام الحالى.
وتتبع كتاب «إمبراطورة النيل» قصة المرأة الأكثر إنجازًا على الإطلاق التى اقتحمت نادى الرجال هذا غير مبالية بالعواقب؛ لقد ألفت «أولسون» عددًا من الكتب عن الحرب العالمية الثانية وكانت تجرى أبحاثًا حول حركة المقاومة الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية التى حملت اسم Musée de l’Homme عندما قرأت بالصدفة عن أمينة متحف اللوفر كريستيان ديروش نوبلكورت التى لمع نجمها فى أوج عصر النازية ذاته.
وكانت «ديروش نوبلكورت» عالمة آثار ميدانية تتمتع بالموهبة فى العثور على المقابر الأثرية المدفونة، ومحاورة بيروقراطية بارعة قوية الشخصية لعبت دورًا رئيسيًا فى إنقاذ الآثار المصرية المهددة بالغرق من الدمار بسبب بناء السد العالى فى أسوان، كما نجت من استجواب البوليس السرى الألمانى أو «الجستابو»، وواجهت الحشود الغاضبة خلال أزمة السويس عام 1956، وتشاجرت مع الجميع من أجل إنقاذ الآثار المصرية بدءًا من رئيس دولتها شارل ديجول وحتى الرئيس المصرى آنذاك جمال عبدالناصر.
ووقع حب مصر فى قلب «ديروش نوبلكورت» عندما كانت فتاة صغيرة بعد أن أخذها جدها لتتأمل مسلة «رمسيس الثانى» العظيمة فى فرنسا تلك التى منحها محمد على باشا كهدية لفرنسا عام 1830، وقالت «أولسون»: إن والديها ساعداها كثيرًا فى مسيرتها المهنية منذ الطفولة بسبب حبهما للثقافة وتمتعهما بالعقلية الليبرالية بدورهما، فقام والداها بتسجيلها فى مدرسة عامة تقدمية للبنات، ثم شجعاها على الدراسة للحصول على شهادة فى علم المصريات فى مدرسة اللوفر المرموقة التابعة للمتحف.
وهناك تتلمذت على يد الكاهن إتيان دريتون الذى عمل فيما بعد مديرًا لهيئة الآثار المصرية التى كانت تديرها فرنسا آنذاك فى القاهرة، وقد قام «دريتون» بترتيب أولى الرحلات الميدانية العديدة التى قام بها طلابه لحفر مواقع على طول نهر النيل، وقد تمكنت بسبب ذكائها العلمى والاجتماعى من النجاة فى المخيمات التى كانت تُنصب للأثريين الموبوءة بالكوبرا والعقارب، كما أتقنت اللغة العربية، وتعرفت على العمال المحليين والعاملين بمجال الآثار.
وفى إدفو، قامت بأول اكتشافاتها بعد أن عثرت على مقبرة الملكة «سششت» أم الملك «تتى» مؤسس الأسرة السادسة وهى المقبرة التى يبلغ عمرها 4200 عام، ونقلت «أولسون» شعور «ديروش نوبلكورت» بعد أن قامت باكتشافها الأثرى وكانت تحدق فى التابوت المدعم بالذهب والمرمر والنحاس والكالسيت قائلة: «كانت النشوة التى شعرت بها لا توصف»، وبسبب كونها امرأة عانت أيضًا من سوء معاملة عالم الآثار الفرنسى الشوفينى، ألكسندر فاريل، الذى قام بتخويفها أثناء عملية التنقيب التى عملا عليها معًا، ثم نسب الفضل لنفسه بعد أن قام بسرقة بعض ملاحظاتها وصورها.
ونقلت «أولسون» عبر كتابها الجديد وقائع الفترة التى سبقت غزو النازيين لبولندا حين قامت «ديروش نوبلكورت» بالتعاون مع مدير متحف اللوفر، جاك جوجارد، من أجل إجلاء آلاف القطع، بما فى ذلك لوحة الموناليزا والمجموعة المصرية بأكملها فى المتحف إلى قصر آخر بعيد لا تعرفه فرق استطلاع النازية، وبعد مرور عام، نظمت عملية ترحيل ثانية للقطع الأثرية التى لا تقدر بثمن عبر الأراضى التى يحتلها النازيون وعبر الطرق المزدحمة باللاجئين إلى المنطقة الفرنسية الحرة بالقرب من الحدود الإسبانية.
وخلال تلك الفترة، كانت رسائل من باريس تتسلل إلى شبكة المقاومة Musée de l’Homme وسرعان ما قام «الجستابو» بتفكيك الحركة وإعدام قادتها، ووقعت «ديروش نوبلكورت» تحت الشكوك النازية لكنها نجت دون أن تصاب بأذى.
وأشادت الصحيفة بالفصل الذى تحدث عن عملية إنقاذ التماثيل العملاقة لرمسيس الثانى ومعابد أبو سمبل من الفيضانات بسبب السد العالى فى أسوان التى نظمتها «ديروش نوبلكورت» باعتبارها أبرز ما فى الكتاب، فبعد أن أعلن «عبدالناصر» نيته بناء السد الجديد ــ الذى كان محور حملة التطوير الضخمة التى انتوتها الحكومة المصرية فى الخمسينيات من القرن الماضى ــ شرعت «ديروش نوبلكورت»، التى كانت آنذاك رئيسة بعثة اليونسكو إلى مصر، فى جهود إنقاذ التمثالين العملاقيين من الغرق.
وتمكنت «ديروش نوبلكورت» من إقناع حكومة «عبدالناصر» بتبنى المشروع، وحصلت على دعم قادة اليونسكو ومباركة أمريكا وإدارة «كينيدى»، والحكومة الفرنسية أيضًا، وصمدت «ديروش نوبلكورت» فى مواجهة المتشككين، وفى أول لقاء لها مع الرئيس الفرنسى شارل ديجول تمكنت ببراعتها فى إدارة الحديث وشخصيتها القوية من الحصول على تمويل فرنسا اللازم لإنقاذ الآثار المصرية من الغرق.
ونقلت «أولسون» بالتفصيل المجهود الذى بذله المئات من أجل انتشال المعبد الكبير لأبو سمبل الذى تم بناؤه منذ ثلاثة آلاف عام من الجرف الذى يقع فيه؛ حيث قام العمال بتقطيع تماثيل الحجر الرملى العملاق إلى قطع صغيرة قاموا برفعها عاليًا فوق مستوى مياه الفيضانات ثم أعادوا تجميعها.
وأشرفت «ديروش نوبلكورت» بعدها على أعمال التنقيب المتنوعة، ونظمت جولات خارجية لزيارة مومياء رمسيس الثانى وكنوز الملك توت عنخ آمون، وكتبت العديد من الكتب عن مصر القديمة، وقد حرصت «أولسون» على ذكر الدور الذى لعبته السيدة الأولى لأمريكا آنذاك جاكلين كينيدى للحفاظ على التراث الثقافى فى عملية الإنقاذ وأيضًا الجهود الناجحة التى بذلها متحف متروبوليتان فى عام 1967 للحصول على معبد «دندور» فى مصر.
وتوفيت «ديروش نوبلكورت» عام 2011 عن عمر يناهز 97 عامًا مُخلفة وراءها إرثًا كبيرًا كأثرية لامعة وخبيرة لوجيستية ودبلوماسية لا تعرف معنى التراجع وباحثة عاشقة لأرض مصر، وقد وصفها أحد زملائها ذات مرة بقوله: «كانت تعدو مثل الغزال فوق رمال الصحارى المصرية حين كان الآخرون يرتدون نعالهم».
وكان آخر عمل ميدانى لها فى مصر، والذى تم تنفيذه عندما كانت فى السبعين من عمرها، عبارة عن مسح لوادى الملكات، وهو مكان دفن زوجات وبنات الفراعنة ــ وكانت الرحلة الاستكشافية تلك حسن الختام لمسيرة حافلة لشخصية متميزة فى التاريخ آمنت بعملها ولم تدع الفجوة بين الجنسين فى علم المصريات تقف فى طريقها أبدًا.