عصا سحرية ووطن وبيت - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 11:17 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عصا سحرية ووطن وبيت

نشر فى : الأربعاء 1 فبراير 2017 - 9:20 م | آخر تحديث : الأربعاء 1 فبراير 2017 - 9:20 م
تجتاح أجزاء من أمريكا هذا الأسبوع احتجاجات غاضبة بسبب قرارات الرئيس الأمريكى الجديد المتعلقة بوضع اللاجئين والمهاجرين، وهى قرارات يرى المحتجون أنها تتنافى مع القيم الأمريكية ومع بعض أسباب نجاح الولايات المتحدة الأمريكية، إذ يحتجون تحديدا على قرارات تمنع دخول اللاجئين والمهاجرين حتى أولئك الذين لديهم أذون إقامات قانونية، أو ما يسمونها «البطاقة الخضراء أو الجرين كارد» وذلك بسبب أصولهم، وهو ما يراه المحتجون بأنه اعتداء على حقوق هؤلاء الأشخاص، وانتقاص من صفة أساسية للولايات المتحدة وهى صفة البلاد المرحبة بالتنوع وبالعرقيات المختلفة، التى يضمن لها الدستور الحقوق الأساسية دون أى استثناء أو تمييز، والتى، أى الأصول المتنوعة، قد ساهمت بشكل مباشر بجعل أمريكا قوة عظمى.
فى الأسبوع ذاته، وفى مكان بعيد جدا عن الاحتجاجات، اجتاحت عاصفة ثلجية منطقة البقاع فى لبنان، فغرقت بعض الخيام التى تعيش تحتها عائلات تركت بيوتها فى سوريا بسبب الحرب. سارع المتضررون وبعض من الأفراد والمجموعات لمساعدتهم فى إنقاذ ما يمكن إنقاذه ونقل العائلات إلى أماكن أقل قسوة.
***
التقيت مؤخرا عددا من الأصدقاء، يعيش بعضهم فى لبنان والبعض الآخر فى بلاد مختلفة، بعضهم سوريون والآخرون من جنسيات متعددة، يجمعهم اهتمام مباشر بالحالة السورية وبوضع السوريين عموما، بالإضافة، بالنسبة لبعضهم على الأقل، إلى سنوات من الصداقة الممتدة عبر البلاد.
فى المجموعة شبان وشابات من سوريا، يحملون بلدهم فى قلوبهم دون أن يجعلوا من مشاعرهم مسلسلا دراميا، ينظرون إلى المستقبل بعزم، ولا تربط خطواتهم سلاسل الشوق والحنين رغم أنها قد تمسك بهم أحيانا من رقابهم فتخنقهم. سألت صديقتى إحدى الشابات عم كانت سوف تغيره لو أعطاها أحدهم عصا سحرية. «لو معى عصاية سحرية بعطى لكل شخص بالعالم بيت»، قالت الشابة دون تردد. «أى بيت، حيطان وسقف وأنا ممكن أعمل فى داخله وطن»، قالت وسط صمتنا.
فكرت كثيرا فى ما قالته الشابة بصوتها الواضح ونظرتها الثاقبة، ففى عالم بدأ يتحول منذ قرابة الخمسين عاما إلى قرية صغيرة بسبب العولمة وتقنيات الاتصالات وسرعة تداول المعلومات وسهولة السفر نوعا ما، يعيش ملايين الناس فى المجهول، خارج بيوتهم وخارج أوطانهم، وكأنهم معلقون بخيط شفاف فوق حدود بلدين، يهتزون مع الريح ويخافون أن يسقطوا فتنكسر عظامهم كما انكسرت أحلامهم قبل ذلك. القرية الصغيرة فى آخر المطاف ليست للجميع، لا بيوت فيها مفتوحة لمن لا يملك مفتاح البوابة الرئيسية فى القرية.
***
أعطنى بيتا وسوف أصنع لنفسى وطنا فى داخله، لا أريد شيئا، أريد فقط مكانا أغلق فيه الباب على نفسى وعلى من أحب، أترك كل ما لا أحبه خارجه. هنا سوف أطبخ بزيت الزيتون والثوم، فتملأ المكان رائحة تذكر بلقاء الأحباء. هناك سوف أغسل يديّ بصابونة من حلب، فتغلف المكان بأسره برائحة الغار والزيتون. فى الزاوية الأخرى سوف أرش ماء الزهر على المخدات، فأدخل عالم الأعياد بمجرد أن أضع رأسى على المخدة، فلطالما شربت ماء الزهر وشممت رائحة الياسمين فى منزل جدتى فى يوم قد يكون عاديا لكنه اليوم يبدو لى وكأنه كان يوم العيد، أى عيد، لا يهم. على الحيطان سوف ألصق أصوات الأصدقاء وهم ينادون اسمي« تمارا وينك؟ تمارا بدنا نبدا ناكل، تمارا تعى بدنا نتصور».
على الأرض أبعثر تلك الصور التى كنت أتأفف حين يلتقطها والدى، وكان ذلك قبل مرحلة التليفون المصور، فقد كان والدى يتحرك بكاميرا تتدلى من حزام حول رقبته، ونقف جميعا بصلابة وبعدم ارتياح بانتظار تلك «التكة» التى نسمعها فنعود للتنفس، بعد أن نكون قد حبسنا أنفاسنا من أجل الصورة.
***
أعطنى بيتا وسوف أغزل فيه بخيوط ملونة كل ما يمثل عندى الوطن: ضحكة والدتى، صوت الملعقة وهى تحرك القهوة فوق النار، إرشادات والدى حول الدروس واحترام الأستاذ، صوت أولاد الحارة قبل أن تنادى عليهم أمهاتهم، عربة بائع متجول لم أعرف قط إن كان فى شارعنا من كان يشترى منه أى شيء أصلا. سوف أعيد سرد القصص التى حكاها لنا الكبار دون أن يعرفوا، وقتها، كم كنا نخاف من الوحوش والساحرة الشريرة التى تختطف الأطفال المشاغبين، لماذا أدخلوا فى رأسنا قصة الغول الذى يأكل الأولاد؟ هذا الغول لن يدخل إلى بيتى، إلى الوطن الجديد، فهو باق هناك حيث وحوش كثيرة لم أحملها معى.
***
هكذا، وكأن فى يدى فرشة ألوان أحركها أمام وجهى فتظهر صديقاتى وقصصهن، وأجد أمامى طاولة صغيرة عليها طبق المعمول بالفستق، أشم رائحة حب الهال، وتجرى طفلتى بخطواتها الجديدة المتعثرة بين الكبار. هنا تختلط مراحل حياتى، وتدخل صور من سوريا إلى صور من أماكن كثيرة أخرى، جميعها هى الوطن، جميعها هى الوسادة التى أنام عليها بعمق لأننى أثق أنها لن تختفى. الوطن هو أن تكون مع من تحب، أن تغرف، فى غياب الأحباء، من قدر من الذكريات ما يكفيك لمواجهة يومك وحيدا، الوطن هو أن تكون فى بيتك، أما الباقى فأنت تصنعه بنفسك. وأنا أيضا يا جميلة يا ذكية، لو معى عصاية سحرية رح أعطى لكل واحد بيت وهو يعمله وطن على كيفه.

 

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات