شم النسيم وفيروز - تمارا الرفاعي - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 6:56 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شم النسيم وفيروز

نشر فى : الأربعاء 1 مايو 2019 - 11:10 م | آخر تحديث : الأربعاء 1 مايو 2019 - 11:10 م

يفاجئنى عيد شم النسيم كل عام وكأنه لم يأتِ على من قبل. أبتهج لفرح أصدقائى بيوم ينسى فيه الكبير والصغير ما يشغلهما ليلتفتا إلى العائلة والأحباب وإفطار العيد والبيض الملون، حتى يبدو لى العالم كله وكأنه يستيقظ ملونا بالأصفر والأزرق والأخضر احتفالا بسحر يجمع المصريين على اختلاف أعمارهم وخلفياتهم. أتخيل ساحرا ينفخ فقاعة كبيرة تغلف مائة مليون شخص من الفجر إلى المغرب، تتغير ألوان الفقاعة مع حركة من بداخلها وتتأرجح فوق سطح الأرض بمن فيها دون أن يقع منها أحد.

***
هناك، فى الفقاعة الملونة، لا مكان للحزن، لا صوت شجار، هناك فقط ضحكات تعلو حتى السماء ثم تعود إلى أصحابها، وكأنها تتأرجح على مرجوحة من كلمات معلقة على مشاعر: على مقعد المرجوحة كلمة «سعادة» والحبلان الممسكان بالمقعد ينبضان بالفرح، مرجوحة أخرى مقعدها من «مرح» وحبلاها كلمتى لعب وضحك. يتناوب الأطفال فوق المرجوحة وينتظر الكبار فى الخلف دورهم أيضا.

***
لم أعرف قط عيدا يجمع الجميع كعيد شم النسيم قبل أن أعيش فى مصر، لم يخطر على بالى من قبل أن ثمة مساحة واسعة جدا بإمكان ناس يختلفون كثيرا أن يتشاركوا فيها كما رأيت خلال سنوات من مشاركة أصدقائى فى القاهرة فرحتهم بيوم يرمون فيه همومهم فى النيل ثم يجلسون على ضفافه يراقبون تحول الهموم إلى ألوان فى الماء.

***
هذه السنة أنا خارج مصر لكنى تابعت عبر مواقع التواصل الاجتماعى احتفال أصدقائى بالربيع، وللأمانة فقد شعرت ببعد كبير وحاولت أن أشغل نفسى بتفاصيل يومية حياتية ومهنية طوال النهار علنى أتجاهل كفى الغربة وهما تقبضان على عنقى. بدا لى من موقعى خلف الشاشة أن عالمهم هو الأجمل والأسعد، صداقاتهم هى الأصدق، فرحهم هو الأبهج. يوم جمع ألوان قوس قزح فتناوبت فى السماء حتى طغى اللون البرتقالى على الدنيا ساعة الغروب، قبل أن يسلم القيادة للبنفسجى الذى فرد نفسه كستارة أعلنت عن انتهاء الاحتفال.

***
لا أعرف لماذا ذكرنى يوم شم النسيم بالشعور الذى يجتاحنى حين أستمع إلى أغانى فيروز، أظن أنهما، أى شم النسيم وفيروز، قادران على استحضار عواطف كثيرة دون أى سياق، وخصوصا دون سياق سياسى. بمعنى أن لكلمات أغانى فيروز قدرة على فتح أبواب سرية فى القلوب فتهطل معها دموع أو ترفرف أجنحة تظهر فجأة فى الظهر فتطير بصاحبها عاليا. يحدث ذلك بمعزل عن وضع سياسى بعينه، نحن نعرف أنها تغنى للسلام لكنها لا تذكر الحرب. نعرف أن هناك قرية معلقة أعلى أحد الجبال لكن لا ذكر للمجزرة التى حدثت فى القرية.

***
شم النسيم يذكرنى بأغانى فيروز، يخاطب القلب فينفتح الأخير على مصراعيه، يجمع الناس فيتركون اختلافاتهم جانبا ريثما يتشاركون وجبة العيد. فيروز خلقت عالما بديلا يشعر كثير ممن يستمعون إليها أنهم ينتمون إليه، رغم أننى بت شبه متأكدة أن «القهوة عالمفرق» موجودة فى كل الشوارع، وأن معظمنا فكر بشخص حين سمع الست تغنى «كنا نتلاقى من عشية»، لذا فربما سر فيروز بالنسبة لمن يحبونها هو قدرة أغنياتها على جعل كل مستمع يشعر أنها تخصه بالذكر، تحديدا هو دون غيره من المستمعين، أفلم أحبه بالصيف وأحبه بالشتا ثم اختفى من حياتى؟

***
شم النسيم أيضا يشعر كل شخص أنه محاط بالمحبين، وهو أجمل شعور على الإطلاق وحبة مضادة للوحدة والاكتئاب. إجماع من المستحيل تحقيقه باقى أيام السنة، تسامح مع الآخر غريب على منطقة تفتقد للتسامح على جميع الأصعدة، ليس الصعيد الدينى أو المذهبى فقط إنما أيضا يغيب التسامح عند اختلاف فى الرأى حول العادات الاجتماعية والثقافية، وحول التربية وحول استخدام بعض المصطلحات دون غيرها، يغيب التسامح فى كثير من المواقف قد تحلها جرعة صغيرة منه لا غير. لكن ها هو شم النسيم يمسح على القلوب مرة فى السنة فيعيدها بيضاء نقية، يصفيها فتبقى الشوائب فى قعر المصفاة، ويخرج ماء الذهب من الشرايين طوال اليوم.

***
لم أحتفل هذا العام بعيد شم النسيم، عيد كل المصريين، لكنى سوف أحتفل به السنة القادمة بغض النظر عن مكان تواجدى، فقد فهمت دوره هذا الأسبوع فى ترسيخ شعور الانتماء، وأنا أفتقد لشعور الانتماء، خصوصا مع بعدى عن القاهرة هذا العام وعن دمشق منذ أعوام. لذا، ففى اليوم التالى ليوم شم النسيم، أبدأ بحفر كلمات أحبها على ألواح من خشب حتى أصنع منها مرجوحة، وألف حبالا حول كلمات «مرح» و«فرح» ومحبة حتى أتعلق بها السنة القادمة فترمينى نحو السماء وتعود بى إلى البيت. فى اليوم التالى أخطط لما سوف أفعله بعد عام، وأمزج ألوانا فاتحة لأضعها فى علب صغيرة على الرف فى المطبخ حتى يحين وقت استعمالها. فى الخلفية صوت فيروز تغنى لأشجار وأنهار لا أعرفها إنما أراها، فها أنا أجلس بينها مع أصدقائى من مصر، نحتفل بيوم يجمع الكل على الحب والفرح. الوقت هو بعد سنة، المكان هو مثل قرية فيروز، لا يهم سياقه لكن ما يعنينى هو ألوان الربيع وضحكة من أحب من حولى.

تمارا الرفاعي كاتبة سورية
التعليقات