«تاريخ آخر للحزن».. ملحمة السراية والغلابة! - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 4:26 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«تاريخ آخر للحزن».. ملحمة السراية والغلابة!

نشر فى : الخميس 2 أبريل 2020 - 10:25 م | آخر تحديث : الخميس 2 أبريل 2020 - 10:25 م

لا شىء يبهجنى مثل عمل فنى استثنائى، أصيل، وناضج فى رؤيته، وفى الطريقة التى أبدع بها.
وهذه رواية عظيمة، بل لعلها أيضا حدث ثقافى مهم، فقد نجح الروائى أحمد صبرى أبو الفتوح فى روايته الجديدة «تاريخ آخر للحزن»، الصادرة عن دار ميريت، فى أن يصنع ملحمة أخرى لا تقل براعة وأصالة عن «ملحمة السراسوة» التى كتبها منذ سنوات، الملحمة الجديدة أقل فى صفحاتها، وفى تكثيف مصائر أجيالها، ولكن ذلك لا ينقص شيئا من تأثيرها، ولا من جدارتها الفنية السامقة.
أقول إنها حدث ثقافى لأن مثل هذه الروايات الكبرى لا تشهد فحسب أن كاتبها من كتاب الطبقة الأولى الممتازة، ولكن لأن الفن يشهد أيضا على الماضى بما لا تستطيعه كتب التاريخ، رؤية الفنان تعيد تشكيل الوقائع، وتضيف إليها بصمة الفنان وخياله وروحه ونظرته الثاقبة، التاريخ هنا هو الذاكرة بمعناها الشامل والعميق، ذاكرة القرى والوسايا والسرايات والمنازل والأكواخ، وتاريخ البشر والعلاقات الاجتماعية، أهل القمة وأهل القاع، البهوات وملح الأرض، صورة بالأشعة للوطن من خلال فترة ممتدة من ثورة عرابى إلى أيامنا الراهنة، نوسا البحر وحكاية أهلها، هى تقريبا حكاية السراية والغلابة عبر العصور.
كان يمكن أن تكتب هذه الملحمة المكثفة فى ستة أجزاء بدلا من ستة فصول وفصل تمهيدى، فالمادة الحياتية غزيرة، والقلم سيال، والسرد شيق، والشخصيات كثيرة' حيث تتقاطع مصائر عدة أجيال من أربع عائلات هى: عائلة عبدالباسط أرسلان، وهم أصحاب الوسية التى تمتد على ثلاث قرى، وعائلة حلاوية التى تنسب للجدة العظيمة التى افتدت أهل قريتها بعد هزيمة عرابى، وعائلة حسنين اللهفة، وهو شريك حلاوية فى افتداء القرية، وعائلة منجى بانى المساجد الذى استوطن نوسا البحر، والعائلات الثلاث الأخيرة هى ملح الأرض، الغلابة الذين يخدمون سادة عائلة أرسلان عبر التاريخ، وعندما تتقطع مصائرهم مع أبناء السادة، يبدأ تاريخ لا ينتهى ولا يتوقف من الحزن.
كان يمكن أن تكون ملحمة ضخمة مترهلة، ولكن كاتبها المتمكن فطن إلى أن التكثيف هو الأنسب فى السرد، لأنه سيوضح للقارئ مدى هذا التقاطع القدرى والمتكرر بين الأغنياء والفقراء، ولكنه تقاطع وارتباط واه للغاية، ينهار مع أول عاصفة، لأنه قائم على عدم التوازن، هناك طرف قوى وثرى يمتص دماء الطرف الفقير الضعيف، حالة عجيبة من الاستهلاك البدنى والنفسى والجنسى، هذا هو قانون اللعبة المتداخلة، وهذا هو سبب أزمة معالى حلاوية، حفيدة الفقراء، فى علاقتها مع منجى عبدالباسط أرسلان، ابن الأغنياء.
معالى ومنجى هما عمودا السرد الراهن، وهما من سيستدعيان أشباح العلائلات البائدة الأربعة، دخلا ليصلحا السراية، ولكى يعرفا حقيقة أشباحها التى تخيف نوسا البحر، فوجدا أشباح الماضى فى صورة حكايات معالى الصادمة، وفى صورة صندوق تحمله، ملىء بالأوراق والخطابات، تركته لها جدتها سيادة.
انظر وتأمل كيف سيؤدى التكنيك السردى البارع إلى الإطلال على الماضى كله متقاطعا ومتضافرا بل ومتشابها مع الحاضر فى علاقة معالى ومنجى، هذه العلاقة هى الأمل الأخير فى التصالح الطبقى بين عائلة أرسلان والفقراء، وخصوصا أن منجى هو ثمرة تصاهر عبدالباسط أرسلان مع عائلة منجى الفقيرة.
هنا تأتى براعة أخرى فى رسم الشخصيتين، فنحن أمام بطل مهزوم جديد هو منجى عبدالباسط، ابن الإقطاعى احتار أن يكون ناصريا، فسجن بعد أحداث مايو 1970، وبعد أحداث يناير 1977، فشلت قصص حبه، ورغم عمله كمحام، فإنه لم يحقق شهرة أو نجاحا، الآن هو عجوز متردد وعاجز عن اتخاذ القرار، بينما معالى، وهى نموذج أدبى سيعيش طويلا فى ذاكرة الرواية المصرية، أكثر قوة وثباتا، هى ذاكرة الحكاية كلها، وهى التى تشحذ أرواح من تحب، وهى أيضا شهر زاد حافظة الحكاية.
هكذا تنمو علاقة راهنة غير متوازنة تعرى الحزن القديم كله الذى يكشف عن علاقات أخرى سابقة غير متوازنة على كل المستويات.. وما أشبه الطبقة التى تسكن السرايا بعبدالمولى العملاق المتوحش الذى دفنوه بصعوبة بعد تقطيعه، الحزن يقوى القلوب كما تقول معالى، ولكن «منجى» عليل، مع ذلك يظل الصراع مفتوحا: معالى ما زالت حية، وما زالت تحمل فى جسدها بذرة جديدة، فهل يرث الغلابة السراية ذات يوم من الأيام؟

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات