نزاع على مراحل والحل مستحيل - جميل مطر - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 12:39 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نزاع على مراحل والحل مستحيل

نشر فى : الأربعاء 2 يونيو 2021 - 7:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 2 يونيو 2021 - 7:25 م

أكثرنا غير مصدق لما تركه استخدام إسرائيل العنف ضد انتفاضة الفلسطينيين الأخيرة؛ من صدى فى أمريكا. تعودنا فى سابق أيامنا على صدى يعكس وحدة إعلامية سياسية صاخبة للتنديد بالفلسطينيين وكل العرب. تعودنا على صدى يعبر عن رفض مطلق وغير متحضر وبعيد عن التفهم الإنسانى لشكاوى الفلسطينيين. تعودنا على مدارس فى الإعلام الأمريكى تغرس اليأس والكره لليهود فى عقول العرب ليصبحوا أهدافا سهلة للاتهام بالعداء للسامية. تعودنا على ممارسات أمريكية وأمريكية إسرائيلية فى المحافل الدولية تفوح منها بكثافة رائحة العنصرية.
هذه المرة اختلف الصدى لأن أمورا وظروفا تغيرت أو استجدت فى العالم عموما وفى الغرب وفى أمريكا وفى العالم العربى وفى بعض الأوساط اليهودية وبخاصة فى إسرائيل. بعض ما تغير أو استجد فى أمريكا كان طفيفا أو متدرجا وبعضه اكتسى بكثير من العنف وأكثره نتج عن تراكم لم يحظ فى بدايته بالاهتمام الكافى وانتهى فى شكل تغيرات هيكلية فى أكثر من بنية أيديولوجية وحضارية، وبخاصة فى بنية العلاقات مع الخارج. لاحظناه وهو يتدرج ولم يحظ من جانبنا بالأهمية الواجبة إلا عندما كثرت المؤشرات على خطورة بعضه ثم عندما مست مواقع دولية حساسة. أختار مثلا بارزا وهو وصول دونالد ترامب إلى منصب رئيس الجمهورية الأمريكية متخطيا أسوار النظام السياسى الأمريكى وبين نواياه التى حملها معه أو حملته هى إلى البيت الأبيض نية خلخلة النظام الدولى القائم واللعب متهورا بأقدار البشرية عن طريق إلغاء اتفاقيات دولية كاتفاقية المناخ وفرض اتفاقيات وقرارات «من خارج الصندوق» على صراعات شديدة التعقيد ومنها الصراع مع إيران والصراع الفلسطينى الإسرائيلى والذى فرض عليه الاتفاقيات الإبراهيمية.
***
اخترنا من عهد الرئيس دونالد ترامب مثالين بارزين، الخروج من اتفاقية المناخ وفرض عقد اتفاقيات على مشارف القضية الفلسطينية، كلاهما كاشفان عن مدى انحدار منظومة السياسة الخارجية فى هذا العهد. المثالان، كل على حدة، قد يحتاج تصحيحهما أو ترشيد آثارهما إلى هدر مصادر سياسية وفيرة. كان أولى بالسيد جو بايدن استثمار هذه المصادر، وبعضها ثمين، فى جهود استعادة مكانة أمريكا، المكانة التى تلازم تدهورها مع مراحل فشل متتالٍ فى التعامل مع أفغانستان ثم العراق. كنا شهودا على صعوبات جمة تواجهها قرارات الانسحاب من أفغانستان من ناحية والاحتفاظ بوجود عسكرى رمزى فى العراق تحت ضغط متقطع من ميليشيات الحشد من ناحية أخرى. هناك أمثلة أخرى لم نكتشف كثرتها، أنا وغيرى، إلا بعد أن رأينا الصورة تكاد تكتمل، وبشكل من الأشكال بفضل هذا الصدى فى أمريكا المختلف عما تعودنا عليه على مدى عقود عديدة.
***
رأينا بكثير من الألم وخيبة الأمل علامات انحدار الديمقراطية وانكشفت هيمنة وسطوة جماعات ضغط بعينها. رأينا المؤسسات وبعض الممارسات السياسية تتعرض لأعمال تخريب كدنا نثق أنها متعمدة بهدف إضعاف الديمقراطية فى أمريكا. هدف عهدناه يتكرر فى أوروبا. نسمع أصواتا كثيرة تنعى لنا ما حل بالحزب الجمهورى وما يفعله بنفسه بإيحاء من الرئيس السابق دونالد ترامب، ونعرف أكثر عن عمق ما خلفه هذا الرئيس، يهمنا الآن بين كل ما خلفه وهو كثير اقتناعنا بأن التمرد على ما فعل والاحتجاج على سياسات عهده أطلق ألسنة كانت محرومة من الاعتراض على الانحياز الأمريكى لإسرائيل فى خلافها مع الشعب الفلسطينى، حرمتها هيمنة نواب وشيوخ تحركهم تنظيمات تابعة لقوى خارجية. رأيت كما يرى النائم رئيس الدولة القائد فى عالم الديمقراطية يوجه رعاعا بعضهم مسلح بآلات حادة وبعضهم يرتدى زى الميليشيات، يوجههم فى اتجاه المول ومبنى الكابيتول فى عملية احتجاج عنيف على ما أطلق عليه الرئيس أسوأ تلاعب فى نتائج الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
***
تابعنا، وبعضنا تابع بشغف، التغير المتدرج فى التركيبة السكانية للمجتمع الأمريكى والتغير التابع له فى ميزان القوة السياسية للأقليات فى أمريكا. حدث فى وقت من الأوقات أن تمتعت الأقلية اليهودية فى أمريكا بنفوذ سياسى لم يتناسب وحجمها فى المجتمع وهو الاستثناء الذى احتمى ليومنا بمجموعة قواعد مؤسسية أو قانونية أو عرفية تقف على رأسها القواعد المناهضة للعداء للسامية. يبدو لى، وما يزال فى مرحلة الترجيح، أن الأقلية اليهودية فى أمريكا تعانى هى الأخرى من داء أصاب السياسة والمجتمع فى كل أمريكا، ألا وهو الاستقطاب. تعانى أيضا، وهو الأهم، الخوف من أن تفقد استثنائيتها فى المجتمع الأمريكى وفى هيراركية جماعات الضغط. عندما أقرأ ما كتبه جيفرى ساكس وكثيرون غيره من أقطاب اليهود فى أعقاب حملة القصف المتوحشة على مدينة غزة وعندما يتأكد لى من متابعاتى للحراك الصهيونى فى الجامعات أكاد أجزم أن تغييرا مهما يحدث فى توجهات الأجيال الجديدة من أبناء وبنات الأقليات اليهودية. أسمع من أصدقاء قريبين من المؤسسة الحاكمة أن بعض الوزراء ومسئولين آخرين من بين من ينتمون لليهودية فى دوائر الحكم الأمريكية بدأوا يتذمرون من ضغوط مسئولين إسرائيليين ونافذين فى المنظمات الصهيونية، وصفها أحدهم بأنها كالسيف المسلط على رقابهم. البعض يلقى بمسئولية التذمر المتوسع على عاملين، الأول شخصية نتنياهو ودوائر الكره له شخصيا فى واشنطن وبين كبار المفكرين والإعلاميين الأمريكيين، يهودا وغير يهود. الثانى، الإصرار على المبالغة فى تصوير المحرقة والحكى عنها أمام أجيال جديدة. يتجاهل المبالغون والمرددون لسرديات مرعبة حقيقة أن المحارق باعتراف كبار الإعلاميين الصهيونيين أنفسهم صارت أمامنا فى كل مكان فى العالم ومحل عقوبات أمريكية وأوروبية. يتجاهلون أيضا أن إسرائيل بما تفعله ضد الفلسطينيين تكاد تنقل حرفيا عن فصول من ملفات النازية وملفات أخرى وجدت فى خزائن الساتشى ومعسكرات العمل السوفييتية أو فى وثائق الغرب الذى يتهم الصين بارتكاب جرائم تشين أى دولة عظمى ومتحضرة.
***
قيل لى بين ما قيل وهو كثير، قيل أن انحسار موجة القومية العربية وانفراط معظم مؤسساتها ساهما مع عناصر إقليمية ودولية أخرى فى رفع الحرج عن المعترضين على انحياز أمريكا الباهظ التكلفة لممارسات إسرائيل الأقرب شبها بالنازية فى الأراضى المحتلة. نذكر كيف أن الإعلام الأمريكى دأب خلال معظم مراحل تاريخنا الحديث على وصم القومية، والفكرة العربية عموما، بأسوأ ما فى قاموس الكره والمبالغة. نذكر فى الوقت نفسه التبجيل الذى حصلت عليه القومية اليهودية. قيل أن انحسار القومية العربية سوف يبتعد بالشعوب والحكومات العربية عن الصراع مع إسرائيل ليصبح مجرد نزاع على أرض بين فلسطينيين ويهود. وهكذا صار بالفعل كما كشفت تطورات حرب إسرائيل ضد كل الفلسطينيين خلال الأيام الماضية. كشفت عن شىء آخر.
***
نقرأ رغبة عامة لدى إعلاميين ورجال ونساء سياسة وعلماء علاقات دولية ودبلوماسيين متقاعدين، تحتوى الرغبة على دعوة عاجلة للبحث عن حل سياسى للنزاع. قرأت لمن يدعو الحكومة المصرية إلى الانتقال فور الانتهاء من مساعى الهدنة إلى الانخراط فى مفاوضات للتسوية الشاملة. كلام كبير. كلمتان أسمعهما من أصدقائى العراقيين تعليقا على وعود وجهود لحل أو تسوية أزمة شديدة التعقيد. كدت فى الأيام الأخيرة وعلى ضوء معرفتى بطموحات وصحة ونوايا الرئيس بايدن، وعلى ضوء خبرتى بالشئون العربية والانقسامات السائدة فى داخل معظم الأقطار وبين بعضها والبعض الآخر، وعلى ضوء انكشاف الاستقطاب فى المجتمع الإسرائيلى والهيمنة اليمينية على الحكم والمجتمع، وعلى ضوء ما يتسرب من أروقة السلطة الغائبة فى رام الله ومن غرف الحكم وصالات التدريب فى غزة، وعلى ضوء رد فعل الفلسطينيين وراء الحزام الأخضر على الحرب الإسرائيلية ضد غزة، وعلى ضوء تفاقم الاستيطان، وعلى ضوء احتمالات عودة ترامب رئيسا لأمريكا وفى صحبته العمالقة من تجار الأراضى، وعلى ضوء التحولات الهائلة التى تشهدها مسارح الصراع والوفاق فى الشرق الأوسط، وعلى ضوء نهاية القطبية الأحادية والانتقال إلى التعددية القطبية فى قيادة النظام الدولى، وعلى ضوء انحسار الغرب والانسحاب الأمريكى من مواقع المواجهة، على ضوء كل هذه الاعتبارات وغيرها مما لا يتسع له المساحة المقررة للمقال أعود فأقول إن ما يصلنى من همهمات تؤكد ما ذهبت إليه من قبل وهو أن إسرائيل رتبت نفسها على نزاع متجدد المراحل، تفصل المرحلة عن الأخرى هدنة بعد أخرى لم تنقل الطرفين على مدى سبعين عاما من الصراع إلى سلام حقيقى، ولن تنقله.
***
إن التوصل إلى سلام دائم وحقيقى بين الطرفين يكاد يكون، أو هو بالفعل، فى حكم المستحيل. وأقول صدقا وأمانة إن فرص التعايش السلمى بين الطرفين ضئيلة للغاية سواء تعايشا فى دولة واحدة أو فى دولتين تطل الواحدة على الأخرى، لن نراهن على شعب من الشعبين أن ينسى. اليهود لم ينسوا الوعد المقدس والفلسطينيون لم ولن ينسوا الأرض التى يطلون عليها كل صباح ويسكنها غزاة ظالمون. لا يسعنى كل يوم إلا أن أزداد اقتناعا بأن من يبادر ويعرض السعى نحو حل دائم وسلام حقيقى يجب أن يكون على مستوى هذا المستحيل.
الاقتباس:
يبدو لى، وما يزال فى مرحلة الترجيح، أن الأقلية اليهودية فى أمريكا تعانى هى الأخرى من داء أصاب السياسة والمجتمع فى كل أمريكا، ألا وهو الاستقطاب. تعانى أيضا، وهو الأهم، الخوف من أن تفقد استثنائيتها فى المجتمع الأمريكى وفى هيراركية جماعات الضغط.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي