القاهرة الإسماعيلية.. مدينة رأسمالية أم مدينة للمصريين؟ - خالد عزب - بوابة الشروق
الأحد 3 أغسطس 2025 6:18 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

القاهرة الإسماعيلية.. مدينة رأسمالية أم مدينة للمصريين؟

نشر فى : السبت 2 أغسطس 2025 - 9:10 م | آخر تحديث : السبت 2 أغسطس 2025 - 9:10 م

منذ عصر محمد على إلى عصرنا ونحن نتعامل فى مصر على أن تراثها هو تراث وجد للسياح الأجانب، فنحن نفتح المتاحف من أجلهم ونطور المناطق الأثرية من أجلهم، لذا فإن غربة المصريين عن تراثهم واقع لا ننكره، نتج عن تكريس الدولة والعاملين فى الآثار والحفاظ عليها هذا النهج لسنوات، هذه الحقيقة تتكرس يوما بعد يوم، وهذا ناتج عن فقدان مصر فلسفة واضحة لها أبعاد قانونية وسياسات واضحة، تكرس الهوية الوطنية عبر التراث والآثار، فى هذا السياق نرى الجدل حول منطقة وسط البلد التى تسمى لدى الباحثين الإسماعيلية، فظل طرح تصور وطنى للتعامل معها بعيدا عن الرأى العام، فهو بالنسبة لمتخذى القرار لا شأن له بما يجرى.
الإسماعيلية هى تلك المنطقة الممتدة من شارع بورسعيد جنوبا إلى شارع رمسيس شمالا، ومن ميدان رمسيس والفجالة شرقا إلى نهر النيل غربا، وهى المنطقة التى بدأ التفكير فى عمارتها من عصر محمد على وابنه إبراهيم باشا، فقد بنى محمد على على شاطئ النيل قصرا لابنته وهو الذى أعاد بناءه سعيد باشا وعرف بقصر النيل، وفى الجنوب منه بنى إبراهيم باشا القصر العالى الذى حل محله حى جاردن سيتى، وبدأ إبراهيم باشا تسوية تلال حى الإسماعيلية وأنشأ حديقة فى الأزبكية وهى التى وسّعها وأعاد رسمها الخديو إسماعيل، لكن هذه المنطقة شهدت ثلاث مراحل من التطور جاءت كما يلى:
المرحلة الأولى: عصر الخديو إسماعيل الذى أمر بشق الشوارع فيها وإزالة التلال وردم البرك، ثم شيدت بها فلل وقصور، لكنها لم تشهد إلا عمرانا محدودا جدا لم يتجاوز 11 % من المساحة المستهدفة، وكان قلب هذا الأزبكية وميدان الأوبرا وميدان الإسماعيلية (التحرير حاليا) وتبقى لنا عدد محدود من الفيلات التى تعود لعصر إسماعيل، وللأسف غالبيتها غير مسجل فى عداد الآثار، كان الخديو إسماعيل يخصص أراضى هذه المنطقة للأجانب بصورة كبيرة ولأفراد الأسرة العلوية ولذا رأينا حضور المصريين محدودا بها آنذاك.
المرحلة الثانية: عصر الخديو عباس حلمى الثانى وتعتبر هى المرحلة التى ظهرت فيها الملامح التى نعرفها الآن لهذه المنطقة، لكن الازدهار بها بدأ من عام 1895 إلى عام 1907 حيث ظهرت شركات عقارية مع ازدهار اقتصادى شهدته مصر نتيجة لازدهار الإنتاج الزراعى وظهور الصناعات التصديرية مثل صناعة السكر، لدرجة أن الإقبال على العقارات زاد بقوة، وهو ما أدى لهدم عدد من الفيلات والقصور وإحلال مكانها عمارات سكنية كان عنوانها عمارات الخديو عباس حلمى الثانى فى شارع عماد الدين التى صممها المعمارى أنطونيو لاشياك، فى هذه المرحلة تبلورت حدود القاهرة الجديدة أو القاهرة الأوروبية، فردم الخليج المصرى (شارع بورسعيد الآن) وردمت ترعة الإسماعيلية (شارع رمسيس الآن) وهنا ظهرت ملامح جديدة لمدينة عصرية متطورة.
المرحلة الثالثة: هى مرحلة عصر الملك فؤاد، فمع عصره عصر الاستقلال الوطنى بدأت ملامح دولة عصرية، ظهرت فى العديد من المنشآت المعمارية، كبناية دار القضاء العالى وجمعية المهندسين وجمعية الحشرات ومصلحة الكيمياء وكلها فى شارع رمسيس الذى نقرأ عبر بناياته لوحة لدولة ترى العلم رأسمالها، والعدل أساس لها.
هذه المراحل واكبها حوار معمارى بين المهندسين سواء كانوا ألمانا أو إيطاليين أو فرنسيين ثم مصريين، عنوان هذا الحوار المعمارى نراه فى واجهات المبانى فى حى الإسماعيلية، فخلف البنك المركزى المصرى فى شارع قصر النيل عمارة تريستا التى شيدت عام 19011 وتحمل طرازا معماريا إسلاميا حديثا، على الجانب الآخر نرى الطراز القوطى فى عمارات شارع هدى شعراوى، والأرت نوفو فى عمارة الشواربى بشارع رمسيس بالإسعاف، وهذا الحوار المعمارى هو ذاته الحوار الذى دار فى مصر بعد ثورة 1919 والذى قام على هوية مصر وإلى أين تتجه، والذى مع أربعينيات القرن العشرين صار عنوانه مصر دولة معاصرة هويتها مركبة ومتعددة الطبقات، لذا لم ير المصريون غضاضة فى تنوع معمارى يثير الانتباه والجدل، ورأينا هذا فى مجمع التحرير الذى حمل زخارف إسلامية الطابع مع ملامح من العمارة الأوروبية فى ضخامة تعكس بصورة رمزية قوة الدولة المركزية المعاصرة وهيمنة المبنى على ميدان التحرير تعكس هيمنة الدولة على المصريين.
إن الجدل الدائر حول هذه المنطقة التى تضم ما لا يقل عن ألفى بناية متعددة الطرازات المعمارية من الطراز الكلاسيكى إلى الأرت نوفو، بحاجة إلى إلقاء الضوء عليها بصورة مختلفة فهى متحف مفتوح للعمارة، به كم من الإبداعات لا حصر له، فالنحت على الجص بها فاق فى إبداعه نظيره فى المدن الأوروبية، ويعود الفضل فى هذا إلى مجموعة من المعماريين الإيطاليين بصورة أساسية ثم الفرنسيين، فقد كسر هؤلاء حاجز التقاليد السابقة، بنحت تماثيل جصية وضعت فوق مداخل العمارات والقصور، فضلا عن التراسات المستديرة والممتدة فى الواجهات  (البلكونات) والنوافذ الممتدة والقباب أعلى المبانى، لكن أيضا التصميمات الداخلية التى تقوم على النظم التقليدية الأوروبية، وهذا ما عكس تغيرا فى عادات المجتمع.
ليبقى السؤال حول أهمية هذا التراث؟
لم تدمر القاهرة خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية فى الوقت الذى دمرت فيه المدن الأوروبية، لذا يمثل هذا التراث تراثا معماريا للعمارة ذات الصبغة الأوروبية له أهميتة الخاصة فى تراث العمارة فى العالم، وهذا يفسر الاهتمام الأوروبى بهذه المنطقة، وهذا التراث يمثل طبقة مهمة فى التراث الوطنى المصرى تعكس انتقال مصر والعمارة المصرية من العمارة الإسلامية إلى العمارة المعاصرة مع محاولات ناجحة فى التوفيق بينهما.
كيف نتعامل مع الإرث المعمارى؟
للأسف الشديد لا توجد رؤية وطنية معلنة للتعامل مع هذا الإرث المعمارى، فما هو مملوك للدولة منه يجب أن يظل مملوكا لها، مع توظيفه ليدر عوائد، فالكثير من البنايات يجب أن تكون فنادق ثلاث نجوم ليس إلا، وذلك لأن فلسفة التعاطى مع هذا التراث الحى هى أن السائح يأتى لكى يتفاعل مع المدينة، أى يأكل من مطاعمها وجباته، وهو ما يعظم مساحات استفادة المصريين من حركة السياحة، كما أن التفكير الجدى يجب أن يجعلنا نفكر ماذا يريد المصريون من منطقة الإسماعيلية؟
على سبيل المثال يجب أن يخصص إحدى البنايات التراثية ليكون متحفا لتراث منطقة الإسماعيلية، ليعرف الناس كيف تطورت وكيف كانت رمزا لسطوة الأجانب وكيف استعادها المصريون؟ وكيف كان المصريون لا يعتبرون الإيطاليين واليونانيين أجانب بقدر ما هم جزء من نسيج المجتمع وبالتالى تفاعلوا مع المصريين فقدموا ما يجعلهم يقرأون رغبات هذا المجتمع، فماكس هرتز شيد قصرا للمليونير زغيب على الطراز المملوكى المستحدث صار مزارا بروعته من قبل المصريين والأجانب حتى هدم وتحول إلى جراج لانتظار السيارات، وهنا يجب التفكير فى إعادة بنائه كما كان ليكون مزارا، ومن هذا المنطلق فإن قصر الأمير سعيد حليم فى شارع شامبليون يجب أن يخصص لمتحف للتاريخ الطبيعى، فبدون سلسلة من المتاحف والمراكز الفنية والثقافية، مع مركز لتراث الإسماعيلية، لن يكون للمصريين علاقة مع هذا المكان، فلندن وباريس مدينتان ذات تراث حى مثل القاهرة، ولذا فتجارب هذه المدن يجب القياس عليها ودراستها، فلدينا فرصة ذهبية لكى نربط الاسماعيلية بنمط من التوظيف النوعى الذى يجعل كل مصرى يرى فيها الوطن فى مراحل تصاعد النزعة الوطنية، فالمسارح ودور السينما جزء من تراث هذه المنطقة وبالتالى إعادة بعضها للحياة مثل مسرح نجيب الريحانى المغلق شىء مهم، هذا ما يعنى أنه يمكن إعادة المواسم المسرحية مرة أخرى، ففرقة رمسيس ليوسف وهبى يجب أن تعود على أحد مسارح وسط البلد، خاصة أن نصوص مسرحياته محفوظة فى أرشيف مكتبة الإسكندرية.
إن اعتبار مطاعم وسط البلد جزء من التراث الحى للمدينة مثل محلات الكشرى والمشويات والفول وغيرها، وبالتالى هنا لابد أن لا يسمح بتغيير نشاط هذه الأماكن لأى سبب حتى لو كان ماديا، لأنه لو كان ماديا ستأتى محلات أطعمة أجنبية وتفقد المنطقة روحها وشخصيتها، فجروبى صار من علامات الإسماعيلية المميزة، لكن أيضا مخبز وسيلى (1897) أقدم مخبز أفرنجى إحدى علامات المنطقة، وكذلك مكتبة الأنجلو بأثاثها، مكونات المدينة التى تعبر عنها هى جزء من تراثها الذى يجب أن نحافظ عليه.

خالد عزب  مشرف علي برنامج ذاكرة مصر المعاصرة
التعليقات