«أيام عادية» هشاشة الحياة والبشر - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 11 مايو 2024 9:23 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«أيام عادية» هشاشة الحياة والبشر

نشر فى : السبت 2 سبتمبر 2023 - 7:50 م | آخر تحديث : السبت 2 سبتمبر 2023 - 7:50 م
قرأت هذه المجموعة فى وقتٍ كان «فيسبوك» مشغولًا فيه بسؤالٍ طريف يكرر نفسه، حيث يسأل شاب متأفف: «لماذا نقرأ الروايات والقصص؟ وما فائدتها أصلا؟»، فيجيب البعض عن سؤاله بما تيسر لهم من آراء، ويوافقه آخرون فى التشكيك فى أهمية هذه الحواديت، وأبتسم فى الحالتين.
بالتغاضى عن تجاهل الجانب الجمالى لكتابة الرواية أو القصة، وبالنظر إلى افتراض وجود منفعة مادية بحتة، فإننى أجد فى نماذج كثيرة من الروايات والقصص، ومنها هذه المجموعة القصصية، ما يحقق فكرة المعرفة الأفضل بالإنسان، دون التورط فى الحكم عليه، وهى قيمة عظمى، أتمنى أن تقنع قارئا متأففا، أو شابا فارغ الصبر، بجدوى الرواية أو القصة، وبحدوث منفعة ما، حتى لو لم يكن مدركا لوجودها.
سأعود إلى تلك النقطة، ولكن عبر قراءة تلك المجموعة القصصية، الصادرة عن الكتب خان، وعنوانها «أيام عادية»، لمؤلفها عادل عصمت، الذى يمتلك عالما خاصا، وصوتا فريدا، والذى يهتم برسم ملامح شخصيات، تعيش خارج القاهرة، فى أمكنة ومدن داخل الدلتا، ومن خلال مزيجٍ مدهش، بين قيم ريفية، وأخرى حضرية، وبين صخب اليومى والمتغيّر، وتأمل الساكن والراسخ فى الزمن.
وبينما يقول عنوان المجموعة، إذا استعرنا النظرة العابرة لصديقنا الشاب، إن الكتابة محورها أيام، وشخصيات، بل ونهايات، عادية تماما، فإنك ستكتشف حتما أننا أمام بحث عما وراء هذا العادى، وأنه لا يوجد فى الواقع شىء عادى، إذا رأيناه من زاوية شخص ما، فى ظرف وزمن ما.
ما تراه عابرا وتافها، قد يغيّر مصير وحياة شخص آخر، وما تقوم به من سلوك عفوى، قد يعنى الكثير لآخرين.
يمكن القول عمومًا إن الرواية، والقصة القصيرة خصوصًا، بل والفن عموما، هو محاولة للبحث عن غير العادى، وراء ما هو مألوف، والتقاط اللحظة والمعنى، وربما العبث أحيانًا، فى قلب ما نمر به، فلا يلفت أنظارنا على الإطلاق.
إنها مادة الحياة، وقد أعيد تشكيلها، من خلال التفاصيل، بل إن عصمت هنا يقترب جدًّا من سرد الحدوتة البسيطة، ولا ينقصه سوى أن يبدأ كل قصة بعبارة «كان ياما كان»، ولكنك تكتشف أن هذه البساطة خادعة، وهدفها التورط فى القراءة والاكتشاف، لتجد نفسك أمام كائنات جديرة بالتعاطف، ولتدرك، وقد قرأت بدافع الفضول، أن الحياة مرتبطة بلحظة، وأنها هشة تمامًا، حيث يبدو الفرد ضعيفا أمام سطوة الزمن والموت والأقدار، وحيث يطوى السرد، بصنعة الفن، حياة كاملة فى صفحتين، ثم يعود فيركّزها فى لحظة واحدة مكثفة.
وفى حين تبدو الشخصيات بسيطة وواضحة فى البداية، فإنها تصبح مركّبة كلما تقدمنا فى القراءة، لأن منهج السرد هو أن نبدأ من الخارج إلى الداخل، ومن الصورة إلى ما وراء الصورة، ومن اللحظة الحاضرة إلى الماضى كله، ومن القناع، إلى الوجه الحقيقى، ومن دون التورط فى الحكم.
إنما هى شخصيات فى مواقف، جديرة بالتأمل والمعرفة، مجرد بورتريهات وحالات، تنقل معرفة أعمق بالإنسان، ومن خلال جماليات السرد. أما الأشياء فليست سوى ذاكرة وحياة كاملة.
نحن نستعين بهذه التفاصيل البسيطة، لكى نعيش، ولكى نخلق المعنى والهدف والأمل، بتنويعات كثيرة، لا حدود لها، والفرد عمومًا هو أكثر من شخص، فى جسد واحد، فنستغرب مثلا ما فعله بنا الزمن، وما فعله أيضًا بالآخرين، ويدهشنا ما فعلناه فى الماضى، أو ما كنا ننتوى أن نفعله، فكأننا نتأمل شخصًا آخر لا نعرفه.
تتعلق الشخصيات بأجندة منسية كتبت فيها بعض المواقف، أو بصورة قديمة باهتة، تذكرها بقصة حب، أو بسيجارة تنفث دخانها، أو بصورة فتاة جميلة فى فاترينة بائع النظارات، أو برائحة الجوافة، أو بظلّ جريدة معلّقة فى شرّاعة الشقة، أو وبإبرة خيط فى ماكينة ملابس مهجورة، أو بلحظة رؤية أم كلثوم، وهى تزور ملجأ للأيتام فى طنطا، أو بصوت عاهرة ريفية، سمعه طفل فى بير السلم، فظل يفتش عن صاحبته بين الفلاحات فى السوق، أو بوهم العودة إلى سرير القرية، للتغلب على مرض قاتل، أو بتخيّل التحول إلى حجر، أو بتذكر لحظة سحب الزجاج المصهور، باعتبارها عنوانا على منطق الحياة.
لحظة عشوائية أو بالصدفة، قد تبعد فردا عن وظيفة، وفكرة انتحار مؤجلة، قد تبنى حياة كاملة، ولحظة ترقية، قد تكشف لك عن حقد دفين، من أقرب الأصدقاء، وأزمة مرض، قد تدفعك إلى بتر صديق من حياتك، ويدٌ ضخمة فى جسد قهره المرض، تعيد ذاكرة القوة والشقاء ومكابدة الحياة، وليلة فى الماضى، تضع حدًّا بين وهم النصر، وواقع الهزيمة، وبين الحقيقة والأكاذيب.
الفكرة تخرج من قلب الحياة فى عاديتها، ولا تفرض عليها من الخارج، وعصمت يحكى عن ناس بعينهم، وشوارع محددة، وعليك أنت أن تتأمل المعنى والحالة.
تقول واحدة من الشخصيات: «لا أحد يعيش من غير أمل»، ويقول السارد فى قصة أخرى: «اللحظة أصل الذاكرة»، وفى قصة ثالثة نقرأ خاتمة معبّرة عن:
«هذا السرب من الأحداث الهشة، التى ترفرف حول مجرى الحياة، وتشكّل هامشا جذّابا، يتكئ عليه، لكى يواصل الحياة».
وبين هشاشة الحياة، ومحاولات ترويضها، وبين زمن مفترس، وأحلام مجهضة، ومصادفات قدرية، وموت عادى جدا، وقريب جدا، مثلما فوجئ المدرسون والطلاب، بسقوط زميلهم ميتا فى فناء المدرسة، ووسط طبيعة إنسانية معقدة، تتشكل حالة وجودية مضطربة، ومعرفة حقيقية بالذات والآخر.
تصبح حكايات الآخرين، هى حكاياتنا نحن، ولكن عبر أقنعة، وتفصيلات مختلفة، ومن خلال تنويعاتٍ أخرى، ولكنها نفس الأسئلة، ونفس الأزمات، ونفس المخاوف، وعبر نفس المحطات والأحوال.
هذا هو الإنسان طفلًا وشابا ومراهقا، فى البيت والوظيفة، فى حالات الحب، والهزيمة، والبيع والشراء، والموت.
الروايات والقصص عنك أنت يا صديقى، ولكنك لا تدرى.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات