نحن الأفضل - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 6:31 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نحن الأفضل

نشر فى : السبت 3 مارس 2012 - 8:30 ص | آخر تحديث : السبت 3 مارس 2012 - 8:30 ص

أصدر الكولونيل أمرا شفهيا بمعاقبة جندى ينتمى إلى وحدته، لم يكن للعقاب الذى أمر به وجود فى اللوائح، ليس سوى تقليد عنيف متوافق عليه، ينتمى لفكرة التأديب خارج إطار القانون. لقى الجندى حتفه خلال تنفيذ العقاب الوحشى، وتحولت عملية التأديب العرفية إلى جريمة قتل تستدعى التحقيق.

 

يناقش فيلم «حفنة من الرجال الصالحين» لروب راينر منظومة القيم الموازية التى يتم اتباعها فى بعض المؤسسات، كما يبرز الصورة الذاتية المتضخمة لبعض القادة ومدى انعكاسها على كل ما يحيط بهم.

 

اللقطات التى يعرضها الفيلم لا يمكن أن يخطئ المشاهد دلالتها؛ يظهر التعالى فى خطوات الكولونيل منذ أن يدخل قاعة المحكمة، وحين يستجوبه الادعاء يأتى الرد مقتضبا صارما ومليئا بالامتعاض. تصفع نظراته الساخرة وجوه الحضور، ويبدو واثقا لا مبالٍ بالاتهامات.

 

طيلة المحاكمة ينكر الكولونيل أنه أصدر الأمر العقابى المعروف باسم code red، ليس خوفا أو تنصلا من مسئولية وفاة الجندى، بل لأنه يرفض تدخل المحكمة فى شأن وحدته الخاص، ولأنه يرى أن تلك المحكمة وإن كانت لها سلطة عليا، فإنها يجب ألا تناطح أبدا مكانته العسكرية الرفيعة، ولا يجب أن تساءله عن تصرفاته.

 

ينكر الكولونيل فعلته من منطلق الاستهانة بجدية الموقف، وحين يقرر الاعتراف مُستَفَزَّا، يستخدم عبارات صريحة تعكس شعوره بتفوقه وتفوق رجاله المطلق، وفى الوقت ذاته تفضح كم الاحتقار الذى يحملونه تجاه كل ما هو مدنى، يتركز خطابه الغاضب حول فكرة محورية مفادها «نحن الأفضل»: نحن الذين نحميكم ونكفل لكم الحرية، نحن الذى نوفر لكم أيها المرفهون المنعمون كل ما تستمتعون به فى مدنكم وبيوتكم، بينما نتحمل الصعاب والمخاطر الجمة ونتبع القواعد الصارمة، ونبذل جهودا خارقة لا تقدرون ولا تجرؤون أنتم على بذلها. يضع خطاب الكولونيل فى نهاية الأمر خطا فاصلا بين الناس تبعا لانتماءاتهم: مواطنون مدنيون فى مرتبة متدنية مهما أنجزوا، وعسكريون عظماء مهما أخطأوا أو أساءوا.

 

قامت على فكرة «نحن الأفضل» كثير من الحركات والكيانات، هناك الجماعات العنصرية المنحازة لأصحاب البشرة البيضاء، وهناك المحافل الماسونية بكل ما حولها من أساطير ونظريات ومؤامرات، وهناك أيضا المجموعات الدينية المتعصبة المنتشرة فى كل مكان بما تدعيه من ملكية مطلقة للمعرفة والصواب. الجاذبية التى تحيط بفكرة «نحن الأفضل»، جعلت رئيسا لدولة كبرى مثل ألمانيا يفقد صوابه، ويقتل مواطنيه الذين لم يستوفوا شروط الانتماء إلى الجنس الآرى العظيم، قضى هتلر على مئات الآلاف من المقعدين والعجزة كى لا يسىء وجودهم إلى العرق النقى ذى الأفضلية الخالصة.

 

●●●

 

فكرة نحن الأفضل والأدرى والأقوى يُعاد انتاجها فى كل حين، وقد تترتب عليها مزايا ومكاسب كبرى، خاصة إذ ما اقترنت بحيازة السلطة أو الاقتراب منها، إن نظرنا فى أغلب الأوقات إلى خطاب سلطتنا الحاكمة إزاء ما ترتكبه من أخطاء، لوجدناه مماثلا لخطاب الكولونيل المتهم، كم من مرة خرج علينا مسئولون بما مفاده: نحن نعلم ما لا تعلمون، ونملك أسرارا لا نفشيها، ونتحمل الكثير فى سبيلكم، ونعمل لمصلحتكم وأنتم ناكرون للجميل؟

 

بعض الخصائص والميزات ما إن يكتسبها المرء حتى تلتصق به، تكاد أن تصبح جزء أصيلا من وجوده، يظل طيلة حياته يتمتع بها، ويستحيل نفيها أو محوها مهما جرى. قد تنشأ الأزمة حين تصر جماعة ما على التمسك بتلك النظرة التقديسية تجاه أحد أفرادها رغم إخلاله بالمبادئ والتقاليد، يرى الناس أنه قد أخطأ بما يستحق المجازاة، وترى الجماعة أنه لا يزال جزء منها، لا يزال داخل إطار «الأفضل»، يحظى بمكتسباته كاملة، ويُوارَى خطأه.. ربما يكون هذا هو السر فى صعوبة التغيير والمحاسبة والعقاب.

 

فى فيلم روب راينر فقد الكولونيل أعصابه فى نهاية المحاكمة، ليس لأنه ضعيف أو قابل للانهيار، بل لأنه لم يحتمل المعاملة كمواطن عادى يحاسب أمام القضاه، ولأنه رأى طيلة الوقت أنه على حق فى قناعاته، ولا يمكنه التخلى عنها، لكن جريمة الكولونيل على فظاعتها لم تكن لصالحه الشخصى، لم يسرق شعبا ولم يجوع ناسا.. ظلت فى عقيدته مفردات مثل الاعتزاز بالذات والشرف والكرامة والانضباط، والولاء لوحدته ووطنه.

 

●●●

 

كنت أتساءل مع كل جلسة هل يفقد الرئيس المصرى السابق أعصابه فى النهاية، وهل إذا فقدها يعترف بما ارتكب فى حقنا ويدافع عنه نفسه ويبرر جرائمه؟.. الحقيقة أنه لم يفعل أى من هذا، لم يتوتر ولم ينفعل ولم يفقد هدوءه ولا أعصابه، واحتفظ برابطة جأشه حتى الجلسة الأخيرة التى تسبق الحكم.. استمع لكل الاتهامات، وخرج من القاعة تماما كما جاءها فى الجلسة الأولى.

 

كلاهما كان عسكريا، كلاهما رفع شعار «نحن الأفضل» وارتكب تحته الأخطاء، وكلاهما ظهر أمام الناس عنيدا وثابتا، لكن أحدهما دافع عن ثلة من المبادئ والقيم التى آمن بها حتى بعد أن أدين، والآخر لم يعد بإمكانه ربما منذ سنوات مضت، أن يتذكر أى مبادئ يجب عليه أن يدافع عنها.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات