هناك تساؤلات جوهرية فى إعفاء رئيس أهم جهاز رقابى فى مصر من منصبه.
التساؤلات تتجاوز الملابسات المقلقة إلى التداعيات المحتملة.
ما الحجم الحقيقى لفاتورة الفساد؟
هذه أخطر الأسئلة التى لا يصح إغفالها فى ضجيج الإعفاء.
بتقديرات المستشار «هشام جنينة» الرئيس السابق للجهاز المركزى للمحاسبات فإنها تبلغ (٦٠٠) مليار جنيه مصرى على مدى أربع سنوات بين (٢٠١٢) و(٢٠١٥).
بافتراض عدم دقة أرقامه إلا أن أى أرقام أخرى للفاتورة نفسها تتجاوز قدرة الاقتصاد، أى اقتصاد، على التحمل.
ما هو منسوب لأرقامه من اتهامات تدور حول عدم انضباطها على أسس محاسبية صحيحة، وأنها استهدفت «إضعاف هيبة الدولة» و«الثقة فى مؤسساتها» و«الإضرار بالأمن القومى» و«تعريض الأمن والسلم العام للخطر».
الاتهامات بنصوصها خروج عن صلب القضية إلى البحث فى النوايا.
هناك فارق بين إعفاء رئيس «المركزى للمحاسبات» وإعفاء الفاسدين من أى محاسبات.
وهناك فارق آخر بين نقض أرقامه واغتيال شخصيته.
بحسب كل الدراسات التى تطرقت إلى ظواهر الفساد فى العقود الأخيرة فهو منهجى ومقنن ومؤسسى.
هذه حقيقة نهائية تتجاوز الأرقام ومدى دقتها والرجل ونواياه.
لا يصح ترك الملف معلقا فى فضاء التساؤلات.
من حق مصر أن تجلى الحقيقة أمامها.
ما الأرقام الصحيحة، وأين مكامن الخلل فى بنية الدولة، وما استراتيجية مكافحة الفساد؟
أما إطلاق الاتهامات بلا دليل قاطع فهذا يحيل الأمر كله إلى مشاحنات شخصية.
ما يضعف هيبة الدولة، أى دولة، إثارة التساؤلات حول جديتها فى مواجهة الفساد.
وما ينزع الثقة فى مؤسساتها أن يتمدد الفساد مطمئنا أن سيف القانون لن يلاحقه، فأيدى الأجهزة الرقابية الأخرى قد تهتز خشية مصائر مماثلة ويفقد المواطن العادى أمله فى أى عدل وكل حساب.
بكلام آخر غياب المواجهة الجدية مع مراكز الفساد ومؤسسته، التى تعتقد أن نفوذها أقوى من أى نفوذ لمؤسسة أخرى، هو الذى يضر بالأمن القومى ويعرض السلم العام للخطر.
بغض النظر عن نسبة الخطأ فى أرقام «جنينة» فإن توحش الفساد لا شك فيه وضرورة مواجهته مسألة مصير لبلد يوفر بالكاد احتياجات مواطنيه الأساسية.
التدقيق فى الأرقام مسألة ضرورية والإفراط فى الانتقام مسألة أخرى.
فى صلب النظر إلى المستقبل المنظور تؤشر تجربة «جنينة» على صراعات نفوذ تكاد تعلن عن نفسها لكنها ليست نهاية المطاف.
الحرب المعطلة مع الفساد ترهق البلد بأكثر من الإرهاب وضرباته وتخفض من منسوب ثقته فى قدرته على صنع مصيره ومواجهة تحدياته الصعبة.
لم يكن «جنينة» سوى جملة، أصابت وأخطأت، فى تلك الحرب.
وبغض النظر عن مساجلات الفقهاء القانونيين فى مدى دستورية القانون الذى جرى بمقتضاه إعفاء رئيس الجهاز المركزى للمحاسبات إلا أن الأجواء بدت سلبية تماما وفادحة فى رسائلها.
هناك من هلل كأن الحرب على الفساد انتهت قبل أن تبدأ وأنها حسمت بالضربة القاضية لفترة طويلة مقبلة.
بعض الذين كانوا يتحسسون رقابهم خشية المثول أمام جهات التحقيق بدءوا فى اتهام كل من يتحدث فى الملف بإثارة الرأى العام وتهديد الاستقرار والتآمر على الدولة لصالح جهات أجنبية.
وبعض التصرفات أساءت إلى الصورة العامة دون مقتضى كأننا فى فيلم بوليسى.
كان يمكن تأجيل الإعفاء إلى حين انتهاء ولايته فى مطلع سبتمبر المقبل أو الخروج من المنصب دون نيل من شرفه الوطنى.
لم يشكك أحد فى ذمته المالية.
هذه شهادة مستحقة لرجل تحاصر السيوف رقبته.
تتفق أو تختلف مع كل أو بعض توجهات «جنينة» إلا أن من حقه أن يخرج من منصبه الرفيع مرفوع الرأس.
لا يعقل أن يقال إنه «استغل صلاحيات منصبه فى جمع المستندات والاحتفاظ بصورها وبعض من أصولها»، فهذا يدخل فى صميم عمله داخل مكتبه.
ولا يعقل اقتحام المكتب بعد لحظات من إعفائه بحثا عن أوراق تدينه وفرض إجراءات استثنائية فى المبنى كله كأننا أمام زعيم مافيا جرى ضبطه متلبسا لا رئيس هيئة رقابية مهمتها تعقب المافيات وإحالتها إلى جهات التحقيق.
هذا القدر من الخشونة غير المبررة تسحب من هيبة المناصب العامة احترامها.
لو أن الأمور استمرت على هذا المنوال لن نجد شخصا يحترم نفسه يقبل أى وظيفة عامة.
هو رجل شجاع رغم أى أخطاء محتملة فى تقديراته لفاتورة الفساد.
دخل فى ملفات حساسة وأشار إلى أوجه خلل فادحة فى هيكل الرواتب والمكافآت ببعض المؤسسات الممنوع الاقتراب منها بحكم الأعراف لا القوانين وفتح ملفات التهرب الضريبى لكبار رجال الأعمال.
استدعى خصومه للمعركة، لم يصمت ولم يصمتوا، ولم يتسن له فى النهاية أن يدافع عن نفسه أو يفند الاتهامات التى وجهت إليه.
بحكم منصبه لم يكن يصح الإفراط فى الحديث للإعلام، فلكل كلمة تأثير وحساب.
الأمر نفسه ينسحب على رؤساء هيئات أخرى، فلكل كلمة آثارها فى حركة الأسواق.
حسن النوايا مسألة ووجود قواعد منضبطة مسألة أخرى.
بكل حساب فقضية «جنينة» تتجاوز شخصه إلى هيبة عمل الأجهزة الرقابية وضرورة تمكينها من العمل باستقلال.
فى عهد الرئيس الأسبق «أنور السادات» ألغيت هيئة الرقابة الإدارية، وذكرت مبررات كثيرة باسم تنشيط الاقتصاد.
كان ذلك داعيا إلى تمركز الفساد فى بنية الدولة.
ورغم أنها عادت بعد سنوات قليلة لإرضاء الرأى العام الذى يرى التجاوزات أمامه بلا حساب والرشى بلا خشية فإن الأجهزة الرقابية كلها تحتاج إلى رؤية جديدة لأدوارها وفق النص الدستورى الذى يلزمها بالتنسيق فيما بينها «فى مكافحة الفساد وتعزيز قيم النزاهة والشفافية، ضمانا لحسن أداء الوظيفة العامة والحفاظ على المال العام ووضع ومتابعة تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد بالمشاركة مع غيرها من الهيئات والأجهزة المعنية».
ذلك هو صلب الملف كله، فإذا لم تكن هناك رؤية جديدة تحسم وتضرب وتنسق بين الأجهزة الرقابية وتحيل الملفات إلى جهات التحقيق وفق استراتيجية وطنية نص عليها الدستور فإن كل رهان على المستقبل سوف يتقوض.
الملفات متخمة وقضاياها مؤجلة بذريعة أنها قد تربك المشهد الاقتصادى المحتقن وفرص ضخ استثمارات جديدة تنعشه.
ما يربك أى اقتصاد غياب القواعد الحديثة التى تتضمن مواجهة الفساد فى كل أشكاله ومراكزه.
بغير تلك الحرب لا مستقبل.