هل نعرف شيئا عن الاقتصاد؟! - مدحت نافع - بوابة الشروق
الخميس 9 مايو 2024 7:51 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل نعرف شيئا عن الاقتصاد؟!

نشر فى : الإثنين 3 أبريل 2023 - 9:20 م | آخر تحديث : الإثنين 3 أبريل 2023 - 9:20 م
كثيرا ما يقف المرء عاجزا أمام حقائق الوجود، فقد قال تعالى فى محكم تنزيله: «وما أوتيتم من العلم إلا قليلا» يظل هذا الحكم قائما ما بقيت السماوات والأرض، مقيّدا لاكتشافات بنى البشر وفتوحاتهم العلمية مهما بلغت، ينسحب ذلك على علوم الدنيا والدين. وقد اعتدنا فى محاضرة طلاب الاقتصاد أن نميّز العلوم الاجتماعية عن العلوم الطبيعية، بكون الأولى تخضع لقوانين البشر، ولا تعرف اليقين الذى نشأت عليه التجارب المعملية لعلوم الفيزياء والكيمياء والطب... لكن حتى هذه الطائفة من العلوم الطبيعية لم تسلم من اهتزاز اليقين وتقلّب الحقائق عبر المكتشفات الجديدة. من منا لا يظن أن المياه موصّل للكهرباء؟ هذا خطأ شائع، فالمياه النقية غير موصلة للكهرباء، إنما ما تحويه من معادن ومواد كيميائية تتكوّن من أيونات مشحونة كهربائيا وهى التى تتسبب فى نقل الكهرباء إلى الأجسام، ولأن هناك استحالة عملية فى أن تجد مصدرا للمياه النقية الخالية من الأيونات (حتى الماء المقطّر) فإن الشائع أن الماء ينقل الكهرباء... كذلك أطلق بعض العلماء نظرية «ارتفاع السكر» فى عام 1978، فى تصوّر منهم أن الأطفال الذين يحصلون على جرعة كبيرة من السكر يعانون من فرط النشاط، وانتقل ذلك إلى يقين معظم الأمهات فى عصرنا الحاضر، بينما تم دحض تلك النظرية تماما عام 1994 عندما أكدت إحدى الدراسات التى أجريت على أطفال تتراوح أعمارهم بين خمس وسبع سنوات أن أثر السكر لا يعدو أن يكون سوى وهم، ولا علاقة له بالنشاط المفرط، ومن يدرى ربما يكتشف العلم لاحقا عكس ذلك! الطب أيضا يتوصّل لعلاج ناجع لمرض ما، ليتسبب وفقا لمكتشفات طبية أحدث فى أزمات صحية أشد خطورة، ولنا فى ثورة علاج البلهارسيا وأثرها على الكبد أسوة ومثل.
• • •
العلم نسبى سريع التطوّر، وحقائق الأمس هى أوهام اليوم وأخطاؤه الشائعة. الاقتصاد كذلك لا يعرف اليقين، لكنه يعرف قوانين وقواعد واحتمالات، ويتوقّف تقدير الناس لمدى إتقانك لأدوات علم الاقتصاد على عدة عوامل، أهمها: سقف توقعات المتلقى لهذا العلم، والمدى الزمنى المقبول لاختبار صحة النظرية والمفاهيم، ونظرتك إلى السببية بين المتغيرات، ومدى اتساق التنبؤات مع الواقع.
بالنسبة لتوقعات المتلقى فإن كثيرا من الناس يتهمون الاقتصاديين بالتنجيم والتدليس، لا لشىء إلا لكونهم لا يمنحون إجابة قاطعة حاسمة على مختلف الأسئلة. والحق أن الفرد العادى لا تعنيه المصطلحات الاقتصادية، بقدر ما تعنيه أسباب المعاش، فعلم الاقتصاد هو علم المعاش كما وصفه «ابن خلدون» فى مقدمته، والإنسان مهموم بتداعيات قرارات وسياسات، لا يعرف منها شيئا غير انعكاسها على راتبه وأسعار السلع التى يستهلكها، ومصروفات مدارس وجامعات الأبناء... إلى غير ذلك من ضروريات الإنفاق. وكلما كان الاقتصادى ملمّا بالمفاهيم والمعلومات الاقتصادية، كلما كانت إجاباته غير حاسمة بالضرورة على أسئلة من نوعية: متى ينخفض سعر الدولار؟ فى أى وعاء ادخارى أضع أموالى؟ لماذا لا تتحسّن أوضاع الموظفين؟ متى تنتهى الأزمة الاقتصادية العالمية؟.. وقديما قيل «أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على النار» والفتوى فى مسائل الاقتصاد كمسائل الشرع، لا يقتحمها ويتجرّد لها بعبارات واثقة إلا من نقص علمه.
الاحتمالات كثيرة والإجابة على ذلك النوع من الأسئلة ينبغى أن تضع مختلف الاحتمالات فى الحسبان، وأن تبنى على فهم للاقتصاد الكلى والجزئى، وعلى وعى بحقيقة لا يمكن تجاهلها، وهو أن الناس يغيّرون من سلوكهم إذا كانوا فى موضع اختبار، فتتغيّر نتيجة الاختبار طوال الوقت. الأزمة الاقتصادية والشدة التى يتعرّض لها المواطنون هى نوع من الاختبار، الذى يفرض سلوكا مغايرا كل مرة، بتغيير أى من العوامل المؤثرة على الفرد والمجتمع. لفهم ذلك علينا أن نتصوّر إناء من الماء يوضع فوق النار حتى يبلغ الغليان، فإن الماء يصل إلى الغليان عند نفس درجة الحرارة كل مرة مهما تغيرت الظروف، وتلك حقيقة لا تقبل التغيير. ثم تخيّل معى أن شخصا وضع فى غرفة صغيرة، وطلب منه أن يتحدّث عن شىء يزعجه فى عدد محدود من الكلمات، فإن ذات الشخص سوف يغيّر إجاباته كلما تغيرت ظروف التجربة، إذا شعر أن السؤال يأتى من جهة تنتمى إلى سلطة ما، أو إذا تغيرت عوامل التهوية والإضاءة فى الغرفة... وهكذا. فالإنسان هو مادة الاقتصاد وموضوعها، وهو لغز أسكن الله فيه من الآيات، ما جعله موضع مقارنة مع إعجاز البارئ فى آفاقه، فقال تعالى: «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِى الآفَاقِ وَفِى أَنْفُسِهِمْ». ولتطبيق ذلك على أحد الأسئلة السابقة، هب أن «الذهب» هو إجابة السؤال عن أفضل الأوعية الادخارية، هذه إجابة تحدث أزمة فى سوق الذهب، يزيد الطلب عن العرض، يرتفع سعر الذهب بصورة غير مسبوقة، يزيد الاكتناز الذى هو عدو الإنفاق والتنمية، فيزداد المجتمع كله فقرا!
• • •
أما عن المدى الزمنى المقبول لاختبار صحة النظرية، فهو أيضا ليس محل اتفاق، فمثلا هل يمكن القول بأن النظرية الكينزية مسيطرة بشكل مطلق أو أننا كلنا كينزيون (كما قال فريدمان)؟ أو أن النظام الرأسمالى هو أنجح الأنظمة الاقتصادية؟ أو أن النظرية الماركسية هُزمت للأبد؟... حقيقة الأمر، وعلى الرغم من انتصار الفكر الرأسمالى الحر، وسيطرة النيوكلاسيك والكينزيين على تطبيقات الاقتصاد فى معظم أنظمة الدول الكبرى والمتقدمة فى العصر الحديث، فإن هناك من يردّ مختلف الأزمات الاقتصادية التى يعانيها العالم إلى ذلك النوع من الأفكار. وأن الفكر الكلاسيكى والنيو كلاسيكى، ومحاولة إنقاذ «كينز» للاقتصاد الحر، كل ذلك يحمل بداخله عناصر هدم المنظومة الاقتصادية، ولا يفعل شيئا سوى توسيع الفجوة بين الطبقات، وزيادة تراكم الثروات فى أيدى عدد قليل من الناس وبمعدّل أسرع من تراكم ثمار النمو، مع وقوع غالبية البشر تحت خط الفقر، واستحالة الخروج من تلك الدائرة إلا بإشعال الحروب وافتعال الأزمات... والحق أن تلك الاتهامات لا يمكن إنكار صحتها، لكن الحكم على النظرية مرهون بمعرفة فروضها، فالنظرية تصح بصحة فروضها، وأى مخالفة لتلك الفروض تحدث خللا، يظل فى حالة نمو وتراكم حتى يفسد الوضع بالكامل فى آلية تشبه أثر «الدومينو». كذلك لا يمكن إغفال ما صنعته تلك النظريات من حسن استغلال وإزكاء الثورة الصناعية (النظرية الكلاسيكية)، وتجاوز أزمات الكساد الكبير (النظرية الكينزية)، والتعامل مع متغيرات العصر الحديث وتدشين خطة مارشال، وبناء عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، والتفاعل مع ثورات المعلومات بنسخها المتعددة (النظرية النيوكلاسيكية). ولا يمكن إغفال غياب البدائل المقبولة لتلك النظريات والأفكار، وإخفاق البديل الشيوعى والاشتراكى فى عموم تطبيقاته شرقا وغربا، بوتيرة أعمق وأسرع من أى إخفاق يذكر لتطبيقات الفكر الليبرالى الحر.
• • •
ولا يمكن أن تقيّم الفكر الاقتصادى بمعزل عن إدراك السببية. هل الأزمات الاقتصادية المتلاحقة هى نتيجة لإخفاق النظرية والعقيدة الاقتصادية السائدة؟ أم أنها حدثت بفعل عوامل أخرى متصلة بالسياسة ــ مثلا ــ وألقت بظلالها على المشهد الاقتصادى؟ كذلك فإن السببية لا تعمل عادة بالتزامن بين المتغيرات؛ بمعنى أن النتيجة التى تراها اليوم ليست بالضرورة ناتجة عن فكر تم تطبيقه حديثا، بل ربما أبطأت النتيجة لتراها فى الوقت الحالى، بينما أسبابها قديمة أو متراكمة عبر سنوات طوال. اللبس بين السبب والنتيجة هو مادة اتهامات المعارك الانتخابية بين الجمهوريين والديمقراطيين فى الولايات المتحدة؛ فعقب ولاية كل رئيس يرجع أحد المعسكرين تهمة تردّى الوضع الاقتصادى إلى سياسات الرئيس المنتهية ولايته، متى كان من الحزب المنافس، ويرد أنصار حزب الرئيس بأن تلك التهمة أولى بها الرئيس السابق أو الأسبق، متى كان ينتمى إلى الحزب المنافس الآخر. ولم تحسم السببية أبدا فى تلك المعارك، وإن هم إلا يخرصون.
• • •
العنصر الأخير الذى يساعد فى الحكم على مدى إتقانك لأدوات الاقتصاد، هو اتساق النبوءات مع الواقع. كلما اقتربت التنبؤات الاقتصادية، التى أطلقها أحد الاقتصاديين أو أحد المراكز البحثية، من أحداث الواقع، كان ذلك بمثابة شهادة إتقان لفهم الصورة الاقتصادية بشكل أقرب إلى الدقة. لكن يجب أن نلتفت هنا إلى أن الاقتصاد يعرف ما نطلق عليه «النبوءة المحققة لذاتها». حينما تصدر النبوءة عن جهة أو شخص يتمتع بمصداقية، فإنها غالبا ما تتحقق، لا لحسن قراءة تلك الجهة أو ذلك الشخص للمشهد الاقتصادى، ولكن لأن الناس سوف يتصرّفون بصورة جماعية غير واعية لتحقيق تلك النبوءة. فلو أن المحافظ السابق لأحد البنوك المركزية خرج ليقول للناس إن البنوك سوف تشهد أزمة سيولة خلال العام المقبل مثلا، فمن المرجّح أن المودعين الذين يثقون فى رأى هذا المسئول السابق سوف يهرعون لسحب ودائعهم، ويقلدهم المودعون الآخرون بآلية سلوك القطيع، حتى تحدث أزمة فعلية فى البنوك، وتستنفد كل احتياطياتها النقدية قبل الوقت المذكور فى النبوءة. كذلك فإن التقارير الصادرة عن بنوك الاستثمار وبيوت الخبرة الشهيرة، متى تناولت الوضع الاقتصادى فى دولة ما أو مؤسسة ما بنظرة سلبية، فإنها تعجّل بتحقيق تلك الصورة ولو لم تكن محتملة قبل ذلك. وتبنى العديد من بنوك الاستثمار سمعتها على صدق التوقعات التى تطلقها، والتى لم تكن لتصادف واقعا لو لم تصدر أبدا، لأنه ببساطة صنيعة تلك التوقعات!
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات