الغرب يتراجع - جميل مطر - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 11:02 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الغرب يتراجع

نشر فى : الخميس 3 يونيو 2010 - 10:55 ص | آخر تحديث : الخميس 3 يونيو 2010 - 10:55 ص

 كانت فكرة تراجع الغرب أملا وأمنية من أغلى أمنيات أجيال عاشت فى العالم الثالث تحت وطأة الاستعمار الغربى. كان الغرب وقتها يعنى بالنسبة لهذه الأجيال غطرسة وعنصرية واستغلالا. وكان يعنى فى الوقت نفسه أحقادا متبادلة فى داخله ووحشية وحروبا دامية هلك فيها الملايين من أبناء الغرب وبناته خلال حربين كان الدافع لنشوبهما سباقا استعماريا على أسواق أفريقيا وآسيا فى المرة الأولى، وسباقا استعماريا من نوع آخر بين ألمانيا والاتحاد السوفييتى على وسط وشرق وجنوب أوروبا فى المرة الثانية.

وبعد الحرب العالمية الثانية كنا شهودا على حرب باردة كانت فى حد ذاتها، بمعنى من المعانى، سباقا على التركة العالمية للإمبراطورية البريطانية بين الاتحاد السوفييتى والولايات المتحدة. بالقياس نفسه، أتفق مع باتريك سيل على أن جيلنا كان شاهدا على حرب باردة عربية نشبت بين قوى «تقدمية» فى العالم العربى وقوى «محافظة»، فاشتهرت كصراع أيديولوجى، بينما كانت فى حقيقتها فى رأيى، أو على الأقل امتدت جذورها إلى سباق بدأ فى العشرينيات من القرن العشرين على تركة الإمبراطورية العثمانية فى الشرق الأوسط.

ولعلنا بعد مائة عام من تاريخ انطلاق السباق على هذه التركة أصبحنا أكثر وعيا بخطورته ونحن نراه يتجدد ونرى ساحته وقد تخلى عنها متسابقون من العرب، تقدميين كانوا أم محافظين أو من غير هؤلاء وأولئك، ويحل محلهم الأتراك والفرس واليهود. إنه الموضوع الذى يستحق أكثر من التأمل، وبخاصة بعد أن تعددت الصدامات الدبلوماسية والتحرشات المتبادلة بين إيران واليهود وبين الأتراك واليهود، وبعد أن أصبحت حقيقة واضحة نية العرب البقاء خارج هذا السباق فى انتظار ما يقرره الغرب لهم من أدوار أ
و ما يقيمه لهم من منظمات وتكتلات إقليمية، تماما كما فعلوا وفعل فى مطلع القرن العشرين.

تجدر ملاحظة أنه بينما كان الغرب فى مطلع القرن الماضى يستعد لنهضة جديدة تقودها الولايات المتحدة التى كانت تراقب باهتمام متزايد وقلق بدايات انحسار الإمبراطورية البريطانية، فإنه الآن يستعد للانحسار فى غياب دولة قائد توقف التراجع وتقود صعودا جديدا. تصور الأوروبيون أنهم باتحادهم وتكاملهم وعملتهم الموحدة يستطيعون أن يمثلوا ذات يوم القوة الاستعمارية والسياسية التى يمكنها أن تشد أزر الولايات المتحدة فى لحظات ضعفها. هذا الضعف الذى يصيب أمما سمحت لنفسها بالترهل أو تضاربت القيم فيها أو بالغت فى نشر أنشطتها والتزاماتها العسكرية حول العالم.

وكان الأمل الأوروبى يتجدد استنادا إلى أن فلسفة الاقتصاد الحر التى انتصرت انتصارا باهرا على فلسفة الاقتصاد الاشتراكى ستظل الطاقة الدافعة وراء قوة الغرب المادية والعسكرية، ومبررا لحملات التبشير بالقيم الغربية الروحية والسياسية فى أنحاء العالم المختلفة.

تكفلت الأزمة الاقتصادية العالمية التى نشبت فى الغرب، ومنه انتقلت بدرجات متفاوتة إلى أكثر دول العالم، بتقديم الدليل الملموس على أن الغرب يتراجع. وأكدت فى الوقت نفسه شكوكا قوية أحاطت بفلسفة الاقتصاد الحر وأثارت الخشية من أن التراجع هذه المرة قد يكون أشد خطورة. لم يكن النمو الاقتصادى فى الصين والهند والبرازيل ثم روسيا إلى حد ما سوى السبب الظاهر لتسرب الشعور بأن الغرب يتراجع. كان السبب الحقيقى صعود فلسفة «رأسمالية الدولة» وانحسار فلسفة الاقتصاد الحر وانكماش دائرة المتحمسين لتطبيقاته.

يثير إيان بريمر فى كتابه الجديد بعنوان «نهاية السوق الحرة» ملاحظة مهمة وهى أن جميع الاقتصاديات الناهضة تعتمد «رأسمالية الدولة» نظاما اقتصاديا تحقق بفضله درجة أسرع فى النمو وتضمن به حدا معقولا من العدالة الاجتماعية وفى الوقت نفسه تحفظ الاقتصاد الوطنى من تقلبات الاقتصاد الرأسمالى.

ويكرر بريمر ما سبق أن ردده المسئولون فى البرازيل والصين على أن بلديهما استطاعتا تفادى عواقب الأزمة المالية العالمية، بل وساهمت فى عمليات إنقاذ النظام الرأسمالى وقت الأزمة العنيفة بالتزامها نظاما اقتصاديا يحمى الاقتصاد العالمى من سلبيات «الرأسمالية التقليدية».

تترك كتابات إيان بريمر ومتابعات غيره لتطورات الاقتصاد الدولى الانطباع أن نظام رأسمالية الدولة يزداد رواجا وتتضاعف قوة تأثيره عاما بعد عام. صحيح أن الدول التى جمعت بين نظامى رأسمالية الدولة والاقتصاد الحر مع ميل أقوى ناحية رأسمالية الدولة ليست كثيرة، بينها على سبيل المثال، أو يأتى فى صدارتها، الصين والهند والبرازيل والسعودية ومصر وإيران وروسيا، إلا أن بعضها حقق نموا وتأثيرا فاق المتوقع فى المدة الصغيرة التى نشط خلالها، مثال على ذلك ما بلغته التجارة الأمريكية الصينية من شأن، إذ بلغت ما قيمته 400 مليار دولار فى عام 2008 بينما لم تزد على 2.4 مليار قبل ثلاثة عقود.

من ناحية أخرى يتحكم نظام الرأسمالية الدولية فى أكثر من 75 % من النفط الخام العالمى تمتلكه شركات قطاع عام، وتتحكم 14شركة قطاع عام فى كميات نفط وغاز تزيد عشرين ضعفا عن الكميات التى تتحكم فيها الشركات المتعدية الجنسية. ولا يخفى حجم النفوذ السياسى الذى يتولد نتيجة هذه السيطرة على إنتاج الطاقة وتسويقها، كما لا تخفى أهمية توظيفها من اجل استقرار أو إثارة الاضطراب فى العلاقات الإقليمية والدولية.

ولدينا المثل فى الدور الذى تقوم به فنزويلا فى أمريكا اللاتينية بتصدرها المقاومة ضد نفوذ الولايات المتحدة واحتكاراتها فى القارة الجنوبية، والدور الذى تلعبه كل من إيران والسعودية فى الشرق الأوسط. وبدون شك ما كان يمكن أن تحصل هذه الدول على النفوذ السياسى الذى آل إليها لو لم تكن حكوماتها تهيمن على إنتاج الطاقة وتصديره، أى لو لم تكن حكومتها تبنت رأسمالية الدولة نظاما اقتصاديا لها.

لا أتردد فى الاعتراف بأننى واحد من الذين يعتقدون أن رأسمالية الدولة مرشحة للاستمرار بل ولانتشار أوسع. تقف وراء هذا الاعتقاد اقتناعات أكثرها براجماتى الطابع. فحكومات الدول الناهضة أو التى تسعى لزيادة معدلات نموها، قد تكون مقتنعة فعلا بأن القطاع الخاص يستطيع المساهمة بدور فعال فى زيادة معدلات النمو ولكنها تعرف يقينا أن رأسمالية الدولة توفر لها ما هو أهم بالنسبة لها، أو لأغلبها، وهو أمن الأنظمة الحاكمة واستمرارها فى الحكم، لأنه أقرب السبل وأكثرها نجاعة للسيطرة «أمنيا» على قطاعات الاقتصاد كافة، فضلا على أنه يتيح أكثر من أى نظام آخر تمويل عمليات «تجنيد السياسيين» وتوظيفهم وتوظيف أولادهم، ويمنح الحزب الحاكم أو الطبقة الحاكمة قوة إضافية لتستخدمها فى الضغط على المعارضين وإرضاء المحتجين.

بمعنى آخر أتصور أن حركة الاقتصاد الحر وأنشطة القطاع الخاص وفلسفته سوف تستمر خاضعة لقيود تجعل حرية السوق، كبقية الحريات فى المجتمع، مقيدة بمصالح الأقلية الحاكمة واحتياجاتها أكثر من ارتباطها بعقيدة الرأسمالية وحق الأفراد فى ممارسة النشاط الاقتصادى. والمتوقع، كما أثبتت تجربة علاقات الغرب مع الصين، أن الغرب صار مع الوقت أكثر اعتمادا على عائد هذا النظام الاقتصادى وربما تكونت له مصلحة فى تشجيعه والمحافظة عليه.

بهذا المعنى وفى هذا السياق يمكن فهم ما يقصده المحللون وعلماء السياسة والاقتصاد حين يكتبون ويحاضرون عن تراجع الغرب وانحدار فلسفته بالمقارنة بصعود فلسفات اقتصادية وسياسية فى مناطق أخرى من العالم. وبالمعنى نفسه يمكن فهم تحذيرهم من خطورة الزيادة الرهيبة المتوقعة فى معدلات الفساد السياسى والمالى وفى التعديات على الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين فى الدول التى تعتمد رأسمالية الدولة. فى رأيهم ورأينا أيضا أن سكوت الدول الأوروبية والولايات المتحدة عن الانتهاكات التى ترتكبها بعض الحكومات الملتزمة فلسفة المزج بين رأسمالية الدولة والنشاط الحر أو تعامله معها بانتهازية ــ دليل قوى آخر على تراجع الغرب.





جميل مطر كاتب ومحلل سياسي