عن أوهام الواقعية - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:06 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن أوهام الواقعية

نشر فى : السبت 3 ديسمبر 2022 - 8:50 م | آخر تحديث : السبت 3 ديسمبر 2022 - 11:34 م
يقول نجيب محفوظ فى حوارٍ قديم له مع المذيع اللامع طارق حبيب: «الواقعية الكاملة أو المطلقة مستحيلة، حتى لو أراد الكاتب، لأنه فى لحظة الكتابة يحدث أمران تلقائيان: الأمر الأول هو الاختيار، والأمر الثانى هو الحذف، بل إن الاختيار والكتابة حذف، لأنهما استبعاد لما لم تختره، وبذلك يستحيل نقل الواقع كاملًا».
الواقعية بالتالى ليست نقل الواقع، وإنما رؤية الفنان للواقع، وهى رؤية محورها الحذف بالضرورة.
ما يقوله الأستاذ نجيب، ببساطة وبوضوح، هو أول درس فى كتاب الفن، ومفاده أن الفن ليس فى مادة الفن، ولكنه فى تشكيل الفنان لهذه المادة. الفن فى الفنان نفسه، وليس فى الموضوع، فى العين الذاتية التى ترى، وليس فى الواقع الموضوعى.
ما لم يقله الأستاذ إن الواقعية فى الأدب والفن هى فى حقيقتها «إيهام» بالواقعية؛ لأنها تتم عبر أدوات وعلامات ورموز، كالكلمات عند الروائى والشاعر، والصور المتتابعة، التى توهمك بأنها تتحرك عند السينمائى، والألوان والخطوط عند الرسام، أى أنه مهما كانت دقة التفاصيل، فإن ما تراه فى اللوحة ليس شجرة واقعية، ولكنه «معادل مرسوم» للشجرة. أمّا الواقع والتاريخ والخيال فكلها مجرد «مواد أساسية» لتشكيل الفن، ولكنها ليست الفن نفسه. الفن هو لمسة الفنان ورؤيته فى اختيار ما يريد من هذه المواد.
بدون حجر لن تكون لدينا مادة للتمثال، لكن الفن ليس فى الحجر، وإنما فى ضربة الإزميل على الحجر، فى العين التى ترى التمثال داخل الحجر، فتستخرجه منه بالإزميل، مثلما كان يقول مايكل أنجلو.
يمكن القول أيضًا إن الفن فى جوهره «حذفٌ متنكر فى شكل اختيار»، ليس فقط عبر اختيار ما تريد من عناصر الواقع وتفاصيله، ولكن أيضًا فى استبعاد كل طرق المعالجة الممكنة الأخرى، عندما يختار الكاتب معالجة بعينها، وفى استبعاد كل الألفاظ المرادفة، باختيار ألفاظ بعينها، وفى استبعاد كل الألوان الأخرى، باختيار ألوان بعينها.
هكذا يستمر الاستبعاد طوال الوقت، تحت مظلة الاختيار، فى كل فنون الكتابة والتعبير عمومًا.
وهكذا أيضا يولد «واقع مواز»، هو «واقع فنى» ينتمى إلى الفنان، حتى لو كان منتزعًا من الواقع الموضوعى.
الواقعية فى الفن ليست انتصارًا للواقع، ولكنها انتصار فنى للفنان، واعتقاد بعض المذاهب النقدية والفنية أن الفنان يعبر عن الواقع، وعن هموم المجتمع، هو توهم والتباس، حتى لو كان هذا التعبير، يتقاطع فعلًا مع صورة الواقع الأصلى.
ليس صحيحًا أن نجيب محفوظ قد عكس صورة الواقع فى الثلاثية، وليست هذه صورة مصر كما قد تقدمها دراسات التاريخ والجغرافيا، وعلوم الاجتماع، ولكنها «صورة المجتمع المصرى كما رآه نجيب محفوظ»، أى أن مادة الواقع خضعت لرؤية الفنان، وليس العكس.
هو لم ينقل الواقع، مثل مرآة محايدة، ولكنه أعاد تركيبه من خلال ذاته ورؤيته، وقدمه للناس من جديد، وفق مذهبه الفنى الواقعى، الذى يعتمد على الإغراق فى التفاصيل، وخلق «معادل منضبط» له.
هذا الإغراق الذى يبدو موضوعيًّا، بل وربما توثيقيًّا فى الروايات الواقعية، إنما هو «اختيار فنى بحت»، وليس حقيقة علمية على الإطلاق.
إنه «وسيلة» وليس غاية، والروائى مهما بلغت دقته، لن يبارى الأنثروبولوجى أو باحث الآثار أو عالم الفولكلور أو أستاذ التاريخ، فى دقة وصفه للمكان أو للبشر أو للأحداث أو للعادات والتقاليد، ولكنه يتفوق على هؤلاء جميعًا بإعادة بناء الواقع، من خلال رؤية ومذهب فنى، أى أن سحره الخاص فى إعادة التشكيل، وفى المعنى، وليس فى التسجيل.
الروائى بالتالى لا يعبر عن مجتمعه، كما يقولون، وإنما يعبر عن «رؤيته الفنية والعقلية لهذا المجتمع»، والفارق كبير وشاسع.
إنه مرة أخرى ذلك الفارق، بين المرآة العاكسة، وبين العسل الذى تفرزه النحلة، بعد أن تمتص رحيق الزهور.
الرحيق هو المادة الخام، ولكن النحلة وحدها هى التى تحول هذه المادة إلى عسل.
الرحيق يظل رحيقًا انتظارًا للنحلة، والعسل فى النحلة، حتى لو كانت بذرته فى الرحيق.
النحلة ليست مجرد وعاء، ولا مرآة، إنها مثل الفنان الذى يرى وحده العسل الكامن فى رحيق المادة.
تبحث النحلة عن الزهور، وتأخذ رحيقها إلى معملها، فتجعل من المادة خلقًا جديدًا.
لا شيء فى الحقيقة يتأثر به الفنان يظل على حاله، وبالتالى فإن بصيرة محفوظ، ورؤيته الفنية المتفردة، هى التى جعلت من «الثلاثية» عملًا عظيمًا، جديرًا بقراءة اجتماعية وسياسية وتاريخية.. إلخ، وبصيرة تولستوى، وموهبته الفنية، هى التى جعلت رواية «الحرب والسلام» عملًا جديرًا بنفس القراءات المختلفة.
هذه براعة الفن، لا حضور الواقع، إذ إنه لا وجود للواقع الموضوعى كما نفهمه، وإنما نحن أمام «إيهام أُجيد صنعه»، أو «واقع متحور»، عسل كان رحيقا، ولكنه صار الآن أمرًا آخر، استبعاد كامل أكثر مما هو انتقاء، المحذوف من قطعة القماش، أكبر بكثير من باترون الثوب، مهما كان هذا الباترون كبيرًا. من أين ترسخت إذن هذه الأفكار المتوهمة عن الواقعية؟
سبب ذلك فى رأيى مزدوج: كتَّابٌ كبار رسخوا لمذهب الواقعية، فأرادوا أن يعطوه مكان العلم، والحقيقة الموضوعية، وأسرفوا فى الحديث عن «الأديب كمصلح»، وعن «التسجيل كما لو كنا نلتقط صورة»، وتحدث بعضهم عن «الفن كتأريخ» للمجتمع، و«كمعالج للمجتمع».
هذا الكلام قد يجوز بمعيار الدعاية لمذهب جديد، ولكنه سخيف حقا بمعيار الفن.
السبب الثانى: النقد والنقاد الممثلون لتياراتٍ بعينها، فقد أسرفوا فى الحديث عن المجتمع، وعن العوامل المؤثرة على الفنان، وأسرفوا فى الحديث عن دور الأديب فى علاج موضوعات اجتماعية واقعية، بل وانتقلت الفكرة إلى خانة حتمية «التزام الفنان» تجاه قضايا مجتمعه.
يؤسفنى حقا أن أصدم كل هؤلاء: «لا شيء له أهمية أو معنى خارج رؤية واختيارات ومحذوفات الفنان».
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات