الخروج عن النص - محمد محمود الإمام - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 3:05 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الخروج عن النص

نشر فى : الإثنين 4 أغسطس 2014 - 8:20 ص | آخر تحديث : الإثنين 4 أغسطس 2014 - 8:20 ص

أيام الحُسْنيَّين، مبارك وفاروق، دار حوار مستفيض حول جواز خروج الممثلين المسرحيين عن النص أثناء الأداء، وهو خروج دفع إليه أمران: الأول أن النصوص ذاتها تراجع مستواها بعد أن شهدت ازدهارا غير مسبوق خلال فترة التزام الدولة والمجتمع بالماضى فى تحقيق نهضة بشرية اختارها قائد ثورة يوليو غايةً يتكاتف الجميع على تحقيقها، فاحتلت الثقافة بكل أبعادها مركز الصدارة، لكونها هى القاعدة التى يقوم عليها البنيان الاجتماعى. الثانى أن عوامل دخيلة على المجتمع ضربت فى جذوره مع انصراف القيادات التى أعقبته إلى تشويه السياحة التى ظلت أمدا طويلا تعتمد على المزارات الحضارية التاريخية والعلمية والدينية، بجعلها تسلية لمن ينفق مالا لم يأته نتيجة إسهام فى نشاط منتج أو تحصيل علم نافع، فانحط مستوى الخدمات الترفيهية إلى دغدغة للغرائز، وانتقلت العدوى للنشاط السياسى ذاته إلى الحد الذى جعل عبارة «خليهم يتسلوا» عبارة يتشدق بها رئيس دولة تخلت عن مسئولياتها الوطنية والقومية والحضارية.

•••

وإذا صح ما بيناه فى مقالات سابقة من تحول فى النظرة إلى الارتقاء بشئون البشر من تقديم البُعد الإنسانى على البعد المادى، فإن رد الاعتبار إلى الثقافة يكون هو المدخل، ليس فقط من حيث المنتجات الثقافية بل، وهو الأهم من حيث تقويمها لسلوك البشر لكى يمتلك كل منهم القدرة على فرز الطيب من الخبيث، وعلى أن يصب عطاؤه فى رفعة شأن المجتمع. ورغم أن هناك إجماعا على أن تخليص التعليم من قيود المنهج التلقينى أصبح ضرورة لا مفر منها، وأن التحول من التعليم إلى التعلّم الذاتى على مدى الحياة يجب أن توفر له السبل التى أتاحها مجتمع المعلومات، فإن الفرد لا يتمكن من استيعاب ما لم تغرس فى ذهنه أسسه منذ نعومة أظفاره، وهو ما يقتضى النهوض بأساليب التربية التى تراجعت فى ظل اقتصاد يلهث فيه الفرد وراء المال ولو بهجرةٍ تحرم أبناءه من رعايته أو تجبره على تعريضهم لمجتمعات تختلف منظوماتها الثقافية اختلافا بيّنا، ولو كانت مشابهة فى اللغة والعقيدة الدينية.

•••

أعود بالذاكرة إلى أول أبنائى حينما زودته بلعبة اسمها «ميكانو» وهى مجموعة من القطع والأدوات التى يشكل بها أجساما تماثل ما يحيط به، وتتدرج مستوياتها بإضافة وحدات تمكنه من الانتقال إلى تركيبات أشد تعقيدا. وأذكر أننى ذهبت إلى متجر شيكوريل بشارع فؤاد (26 يوليو) لشراء إضافة إلى المستوى الثالث فوجدت وفدا من الحاشية الملكية يشترى للأميرة فريال المستوى النهائى وهو الرابع عشر، وعجبت ماذا ستفعل به سموها. لكن ما أسعدنى أنه عندما فرغ ابنى من تركيب التشكيلات التى وردت بالكاتالوج جاءنى ـ رحمه الله ـ قائلا: بابا انظر ماذا عملت. وجدته انطلق مفكرا خارج النص أو الكاتالوج ليعبر عما دار بذهنه، وكانت هذه أول خطوة نحو الإبداع، وهو العنصر المحورى فى الموجة الثالثة التى يسعى العالم إلى استكمالها. وساعده ذلك على تكوين شخصية تملك قدرة التروى والتأمل بحيث استجاب لطلبى عندما سافرت إلى الخارج بأن يرعى أشقاءه الأصغر، فنضجت شخصيته مبكرا وامتلك محبة تلاميذه فيما بعد كمدرس جامعى، لخلقه وعلمه. لم يكن مجرد شبابه هو تذكرة الدخول إلى مسرح العمل العام كما يتردد هذه الأيام، بل كان ما غرسه فيه الجيل الأكبر من قيم وعادات. فإذا فقد هذا الأخير تلك القدرة وتخلى عن تلك المسئولية فى ظل دولة تسعى إلى التفكيك دون إعادة تركيب، فإننا نضيف شباب الشوارع إلى أطفال الشوارع ليخرج علينا شخص أخرق يطالب بإعدام أبناء الشوارع، وهو الأولى بالإعدام إذا كان مقصرا أو متسترا على تقصير.

وحينما قام ابنى بإعداد رسالة لماجستير إدارة الأعمال، اختار موضوع «الإدارة الوسطى» باعتبارها العصب الأساسى لأى تكوين مؤسسى متعدد المستويات والفروع. كانت الدولة قد ركزت على الإدارة العليا، وتدريب المستويات الدنيا، وغابت الحلقة الحاكمة فترهل الجهاز التنفيذى وارتبكت شئون قطاع الأعمال، بل والأسر والمجتمعات المحلية، وانتهى الأمر بانهيار البنيان المجتمعى. وفى ظل ذلك غاب عن الثقافة وجهها الجمالى، وأول معالمه النظافة والإتقان، لأنها تريح النفوس والأذهان. أتابع حديثى عن ابنى فأذكر أننى صحبت والدته وأخته لزيارته أثناء إكماله دراسته فى أمريكا، فإذا ابنتى تمشى على أطراف قدميها فى مطار أمستردام، فسألتها عن السبب فكان ردها أنها تخشى تلويث مكان غاية فى الجمال والنظافة. وعندما توقفنا فى نيويورك أثناء العودة، وكانت بلديتها تشكو من عجز مالى، تنفست ابنتى الصعداء لأنها وجدتها لا تختلف كثيرا عن مصر فى أكوام القمامة.

•••

حينما كنا نتداول ما آلت إليه الأوضاع قبيل الثورة قلت إن مصر بها ميزتان إذا اجتمعتا انطلقت إلى العلا: حماس شبابها الذى أفرز جيل السبعينيات، وتكاتف شعبها بغثه وثمينه وقت الشدائد إذا تبدى فى الأفق أمل يبشر بخير تاقت النفوس إليه، وهو ما تبدّى خلال حرب الاستنزاف وبلغ الذروة عند العبور. وتصورت فى فبراير 2011 عندما نزل الشباب مبتهجا بما أنجزه ينظف الميادين والشوارع استعدادا لعهد جديد كاد اليأس من بلوغه يقتل النفوس كمدا، إننا اهتدينا إلى بداية الطريق، ولكن ما حدث بعد انتصار أكتوبر من تفريغ النظام القائم لمحتواه، تكرر بصورة أبشع بفعل شرائح تغلغلت فى جسد المجتمع فى ظل الانهيار الثقافى، يعلو فيها صوت من لا يفقهون من شئون دينهم أو دنياهم شيئا. وآلمنى أكثر أن من بقى على نقاء سريرته من المثقفين جاهدوا لتشكيل لجان حكماء تحاول رأب الصدع وإضاءة الطريق أمام سلطة تفرعت عن النظام السابق، وتولت الأمور بتكليف منه لتغطية مرحلة انقطاع قدرت بأن تكون قصيرة، فانسحبت لأنها تاهت فى وادٍ غير ذى زرع، وتعرضت لإهانات ممن يتشدقون بعبارات مستمدة من ثقافة تدعى الدفاع عن حقوق الإنسان وتلخيص الديمقراطية فى مؤسسات شكلية، تتولى هدم ما تبقى من المنظومة الثقافية. وهى تجاهد لهدم المؤسسة الوحيدة التى كانت ولا تزال هى المقصودة بكل ما اقتيدت إليه الثورة من متاهات. وترتب على ذلك دخول من يفترض فيهم امتلاك قدر من الثقافة بمعناها اللفظى فى صراع متبادل، ضحيته الأولى تلك التشكيلات التى قامت على منطلقات اجتماعية. إنها زيجة فكرية غريبة بين فكر اجتماعى متنور، وغيبوبة تجهيلية تنخر فى جسد مصر ورفاقها فى الربيع العربى، أنجبت.. يسقط حكم العسكر.. كغطاء لعبارة.. وداعا مصر إلى الأبد.

محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق
التعليقات