نحن العملاء الخونة - صحافة عربية - بوابة الشروق
الأحد 28 أبريل 2024 7:40 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

نحن العملاء الخونة

نشر فى : الجمعة 4 أغسطس 2017 - 9:15 م | آخر تحديث : الجمعة 4 أغسطس 2017 - 9:15 م
نشرت صحيفة الحياة اللندنية مقالا للكاتب حازم صاغية ذكر فيه أن فى الأنظمة الديموقراطيّة قد يُكتشف عميل أو جاسوس، أو شبكة تجسّس تضمّ، فى الحدّ الأقصى، عددا من الأفراد. لكنّ ظاهرة العمالة والخيانة والجاسوسيّة والتراشق بها، أو استعمالها فزّاعة، لا تنشأ إلاّ فى بيئة من اثنتين: فى الأنظمة الاستبداديّة والتوتاليتاريّة التى تقول بوجود قضيّة مقدّسة أو قضايا مقدّسة، وفى التنظيمات الحزبيّة السرّيّة التى يقيم عالمها تحت الأرض، وهى الأخرى تشارك الأنظمة المستبدّة القول بقضايا مقدّسة.
الأنظمة الديموقراطيّة فى لحظات انحطاطها، كما حصل مثلا لأمريكا المكارثيّة فى الخمسينيات، تعتنق قضيّة مقدّسة. فى الحالة المذكورة كانت مكافحة الشيوعيّة هى القضيّة. آنذاك استُخدمت فزّاعة الجاسوسيّة للإيقاع بفنّانين وكتّاب وعلماء وسينمائيّين خالفوا تلك القضيّة ولم يُقرّوا لها بالقداسة.
قصارى القول: أعطنا قضيّة مقدّسة وخذ عملاء وخونة. لماذا؟ لأنّ القداسة لا تجيز الاختلاف، ناهيك عن الشكّ. الهرطقة والتجديف يقيمان على مرمى حجر من القداسة. ولأنّنا أرض القضايا المقدّسة الكثيرة فنحن، بالتالى، نفرّخ عملاء كثيرين!.
لكنْ على الرغم من كلّ شىء، لا بأس بأخذ هذه الدعوات بشىء من الجدّ، إذ فى وسعها أن تلوّث الحياة السياسيّة والأخلاقيّة بأكثر كثيرا ممّا هى ملوّثة. هذا يُلحّ على أسئلة تُطرح على الذين ما زالوا يستخدمون هذا القاموس:
ــ يقدّم التراث الشيوعىّ مادّة خصبة. لنفكّر مثلا بتاريخ الأحزاب الشيوعيّة وبتصفية ستالين لعدد من أخلص الشيوعيّين بوصفهم عملاء وخونة. حتّى فى لبنان، وإبّان خلافهم فى الستينيات، اتّهم شيوعيّون شيوعيّين آخرين بأنّهم عملاء لأمريكا. الشيوعيّون أيضا، وهم من أرباب المراشقة بالعمالة والخيانة، وجدوا، فى الثمانينيات، من يرشقهم بها فيقتلهم اغتيالا، كما حصل فى بيروت، أو يعدم أمينهم العامّ كما حصل فى طهران.
فى هذه الغابة من الالتباس الموحل، كيف يمكن أن تُحمَل تهمة كهذه على محمل الجدّ؟
ــ وهناك المسافة الهائلة بين رسوخ التّهمة وإطلاقيّتها وبين الطبيعة المتحوّلة للقضايا. مثلا، فى الخمسينيات والنصف الأوّل من الستينيات، كانت قضيّة الوحدة العربيّة أكثر القضايا قداسة لدى قطاعات عريضة جدّا فى العالم العربى. مَن كان يعتقد أنّ هذه القضيّة غير قابلة للتحقيق، أو أنّها مُضرّة ببناء وطنيّات عربيّة، كان يُعتبر خائنا وعميلا. قتلُ «عميل» كهذا آنذاك، بسبب قضيّة ما لبث أن انتهى زمن صلاحها، هو مثل اكتشاف براءة المتَّهم بعد تنفيذ حكم الإعدام به.
ــ بعيدا من «الهوبرة» السخيفة والديماجوجيّات الرخيصة، نحن مجتمعات متنازعة على المعانى. نحن مختلفون عميقا فى معنى الوطنيّة، فى معنى مكافحة إسرائيل، فى معنى محاربة الإرهاب، فى الموقف من إيران ومن قضايا لا حصر لها. هذه الخلافات، التى تستدعى توافقات وتسويات، تتفجّر اليوم حروبا ونزاعات أهليّة تندرج فيها قطاعات عريضة من السكّان. أمّا تصويرنا بوصفنا مُجمعين على قضيّة مقدّسة إجماعا لا يشذّ عنه إلاّ حفنة من الخونة والعملاء... فهذا واحد من اثنين: إمّا البله الذى لا ينتبه صاحبه إلى واقعنا الأهلى المثقل بانقساماته، وإمّا الطائفيّة المقنّعة بحيث تُستخدم تهمة العمالة لتجنّب ذكر جماعات طائفيّة أخرى هى المقصودة فعلا بالشتيمة.
ــ نحن، ومع الاحترام لكلّ الانتصارات الكبرى التى حقّقها «حزب الله» وأنهت زمن الهزائم!، لا نزال شعوبا وأمما مهزومة ومنكوبة وفقيرة. ولا نظنّ أنّ حفنة من العملاء هى التى تسبّبت فى تردّينا ذى الأوجه والمستويات الكثيرة. ومَن يكون هذا حاله، بعد تجريبه «الخلاص» القومى و«الخلاص» الاشتراكى والخلاص «الإسلامى»، يخفّف قليلا درجة الاعتداد بصحّة رأيه. يسمع أكثر. يكون مستعدّا للتفاعل مع آراء أخرى. يعتمد شيئا من الشكّ، خصوصا أنّه جرّب تلك القداسة، وحاكم الآخرين على أساسها، مرّة بعد مرّة بعد مرّة.
فى العموم، يُستحسن الإقلاع عن العادة البليدة والخرقاء، أى الاتّهام بالعمالة والخيانة، بعد كلّ التاريخ الحافل بالوسخ الذى أحاط بها. لكنْ إذا كان من هو مهزوم إلى هذا الحدّ واثقا من صحّة أفكاره ومن اكتفائها الذاتى إلى هذا الحدّ، فكيف إذا صار هذا المهزوم منتصرا؟ مشانقُ على مدّ النظر وفرع للأمن فى كلّ غرفة نوم. مهزوم كهذا ينبغى ألاّ ينتصر لأنّ «أعداء الأمّة» لن يستطيعوا إيذاءها كما يؤذيها هو.
أمّا إذا أصرّ «الوطنيّون» على هذه العادة المقرفة لأسباب لا نعرف إلاّ بعضها!، فعند ذاك، وقياسا بوطنيّين كهؤلاء، يسعدنا أن نكون خونة هذا البلد وعملاءه. إنّ الدنس خير من تلك القداسة.

الحياة ــ لندن

 

التعليقات