كلهم أسرى الدولة - إبراهيم الهضيبى - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 5:58 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كلهم أسرى الدولة

نشر فى : الجمعة 5 أبريل 2013 - 8:00 ص | آخر تحديث : الجمعة 5 أبريل 2013 - 8:00 ص

يتعارك الساسة حول هوية الدولة بين أطراف تدعى «الإسلامية» و«المدنية» و«المصرية»، وبقدر ما تعكس معاركهم التباين ــ وربما الاختزالية ــ فى قراءة التأريخ (بادعاء كل طرف أن الهوية التى يدافع عنها هى وحدها المتوارثة)، فإنها تعكس هزيمتهم الفكرية جميعا أمام الدولة التسلطية وسحرها.

 

•••

 

عينت الدولة المصرية الحديثة ــ منذ نشأتها فى وقت محمد على ــ نفسها واصيا على المجتمع، فأعادت صياغته من خلال المؤسسة التعليمية والإعلامية التى احتكرتها وأعادت بها صياغة العقول، والمؤسسة الأمنية التى فرضت بها تغييرات هيكلية بالقوة (وهى كلها أدوات غير ديمقراطية، مكن منها احتكار أدوات إنتاج المعرفة وصياغة الخطابات المتمثلة فى المطابع، وأدوات القمع المتمثلة فى الأجهزة الأمنية)، وفككت البنى المجتمعية الموجودة التى قاومت تلك الدولة المطلقة، فأوجدت الوعى بالمصرية كهوية وانتماء أوحد أو أسمى، كانت هذه الدولة التحديثية فى القلب منه.

 

كانت الدولة منذ نشأتها تسلطية؛ قفزت على البنى المجتمعية (كالنقابات ونظم العمد والمشايخ، والطرق الصوفية، والنظام القضائى، والأوقاف، والمؤسسات الدينية) واستحوذت عليها، فانتزعت قدرة المجتمع على التنظيم الذاتى والإدارة الذاتية لشئونه، و«مركزت» و«دولنت» الإدارة تحت ادعاء معرفة الصالح العام والمصلحة الوطنية، وكان طبيعيا أن تحتكر بمؤسساتها البيروقراطية والعسكرية (باعتبارها حضانة الوعى بالمصرية) إفراز القيادات السياسية على مدى تاريخها، بدءا من أحمد عرابى ومرورا بسعد زغلول وعبد الناصر ولاحقيه فى الحكم.

 

وإذا لم تكن الثورة بالضرورة ضد كل دولة فإن أى ثورة هى بكل تأكيد ضد هذه الدولة التسلطية، إذ الثورة عمل جماهيرى يعيد المجتمع لقلب المشهد، ليستعيد دوره فى صناعة قراراته، وهذه الدولة ــ وحتى بقطع النظر عما شاب انتخاباتها من تزوير ــ قد استبعدت المجتمع بنظم سياسية وقانونية فرضت عليه من أعلى، غير أن الدلائل تشير إلى أن الدولة مع ذلك «سحرت» الساسة باختلاف اتجاهاتهم، فصاروا ــ حتى فى ادعائهم الثورية، أى أقصى درجات معارضتها ــ يتمسكون بمنطقها.

 

•••

 

أسرت الدولة المذعورين من تغيير هويتها، وجلهم من أبناء الطبقة الوسطى والوسطى العليا فى المدن الكبرى، ممن تعرضوا أكثر من غيرهم لسحرها، من خلال كثرة الاحتكاك بها، والتأثر بإنتاجها الإعلامى، والتعليمى، ونظمها القانونية وجهازها البيروقراطى، فرأوا فيها هوية ينبغى الدفاع عنها من خطر الأسلمة أو الأخونة، وهيبة ينبغى الحفاظ عليها بأى ثمن بسبب مساهمتها فى «حفظ السلم الاجتماعى»، الذى هو فى حقيقته استخدام لقوة الدولة فى منع أى اعتراض واسع على الظلم الاجتماعى القائم.

 

وتناسى هؤلاء أن هذه الدولة بهويتها تلك، ومحاولتها إعادة إنتاج المجتمع ليتماشى معها، قد أدت لاضطهاد من ليسوا على شاكلتها، من البدو والنوبيين على سبيل المثال، الذين ظلوا ــ بسبب عدم انطباق معايير الهوية المصرية عليهم ــ محل ارتياب، وخيّروا عمليا بين التخلى عن هوياتهم الثقافية والانصياع للدولة المركزية التسلطية فى نظمها التعليمية والقانونية وغيرها، أو مواجهة الاتهام بنقص المصرية، الذى أدى لأن تكون الأبعاد الأمنية هى الغالبة فى التعامل معهم، بصورة مماثلة لما واجهته الأقليات العرقية فى تركيا مع صعود الدولة القومية.

 

وفى المقالبل، أوقعت الدولة الإسلاميين ــ منذ لحظة ميلادهم ــ فى أسرها، إذ واكب صعودها الكبير فى نهايات القرن التاسع عشر اهتماما متزايدا بها، لم يأتِ فى صورة نظر نقدى لآثار صعودها، وإنما فى صورة تحول التركيز فى النشاط الدينى عند البعض من الاجتماعى إلى السياسى، بمعنى أن العمل الدينى قبل ذلك انشغل بالأساس بالاجتماعى المتمثل فى التعليم الشرعى والطرق الصوفية، ثم صار فجأة سياسيا بعدما اقتحمت السياسة كل المجالات بصعود الدولة الحديثة، وكان ظهور الحركة الإسلامية التجلى الأهم لهذا التحول.

 

ومع صعود الدولة، والتوسع الشديد لمجال عمل القانون، صار الهم الرئيس للإسلاميين «تقنين الشريعة»، وهو مسعى يعبر عن السقوط التام فى أسر الدولة، أولا بتحول مشروع «الشريعة» من مشروع اجتماعى فى جل جوانبه (كما كان من خلال المساجد والطرق الصوفية والأوقاف والتعليم الدينى) إلى مشروع سياسى بالأساس (يسعى لامتلاك الدولة التى هى أداة التغيير، بدلا من أن يعترض على وجود كيان بهذه القوة غير المسبوقة للتدخل فى المجتمع من أعلى)، وثانيا بالاستسلام لمنطق الشرعية فى الدولة الحديثة القائم على التقنين، والمتعارض ــ فى قواعده القانونية المغلقة ــ مع طبيعة الفقه ذى النسق المفتوح، والموقع للمجتمع بشكل متزايد تحت سلطان الدولة بعدما كانت أشكال التقاضى من قبل أكثر رحابة وأبعد عن الدولة، وهذا القبول هو بالتالى تخل عن أى مشروع تحررى يسعى لإعادة بناء الأمة على أسس من تمكين المجتمع والاستقلال وعدم الاستغلال.

 

•••

 

الوقوع فى أسر الدولة سبب مشكلات كبيرة بعد خلع مبارك، إذ ظهر البون واسعا بين الساسة ــ باختلاف توجهاتهم، واختلاف درجات سقوطهم فى الأسر ــ الراغبين فى الجلوس على كرسيه من جهة، والمجتمع الذى ما عادت القوالب المصنوعة له تناسبه، فعجز الساسة ــ بسبب تمكن منطق الدولة منهم ــ عن توفير الأطر الواسعة التى يحتاجها المجتمع فى حركته، ولم ينجحوا ــ بالتالى ــ فى بناء أى نظام سياسى يحظى بالشرعية المجتمعية، وهو ما تجلى فى موجات العنف المتلاحقة، وكذا فى الانخفاض التدريجى لنسبة المشاركين فى الانتخابات والاستفتاءات من انتخابات مجلس الشعب 2011 إلى التصويت على الدستور فى 2012.

 

ولا يحتاج تجنب أسر الدولة بالضرورة لتنحيتها بالكامل، وإنما للانشغال بالمجتمع وسبل تقويته وتمكينه، بحيث يصير هو الأساس، وهو الذى يعطى الهوية للدولة لا العكس، وهذا التمكين للمجتمع إنما يكون بتفعيل أدوات الحكم الذاتى فيه، والحد من نفوذ قانون الدولة الموحد المركزى، وهذا هو المدخل الأمثل للتوزيع الأكثر عدلا للثورة، والديمقراطية الحقيقية ذات المعنى (أى المتعلقة لا بحق التصويت فحسب، وإنما بحق اتخاذ القرارات الأكثر اتصالا بالحياة المباشرة للمواطن، من تحديد أوجه إنفاق الحكومات المحلية، لكيفية عمل الأمن وعلاقته بالمواطنين على النطاق المحلى، والرقابة عليه، وغير ذلك)، وهو يؤدى لقبول التنوع بسبب عدم الحرص على التنميط (الذى هو فرع عن تسييد قيمة السوق)، وتحرير الإرادة (لا بمعنى حق التصويت فحسب، وإنما الحفاظ على الإنسانية من استرقاق نظام الدولة المركزية الذى يحول البشر لأدوات كالموارد الأخرى)، واسترداد الكرامة، وصناعة الأمل فى المستقبل فى وقت نحتاج فيه إليه بشدة.

التعليقات