«المصيدة الأوكرانية».. بالغزو والغاز والإغراءات! - طارق فريد زيدان - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 12:09 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«المصيدة الأوكرانية».. بالغزو والغاز والإغراءات!

نشر فى : الإثنين 7 مارس 2022 - 8:45 م | آخر تحديث : الإثنين 7 مارس 2022 - 8:45 م

دخل كوكب الأرض عصرا جديدا فى اللحظة التى عبرت فيها الدبابات الروسية حدودها مع أوكرانيا. تماما كمقولة رائد الفضاء نيل أرمسترونج حين وَطِئ سطح القمر «خطوة صغيرة للإنسان وقفزة كبيرة للإنسانية».
هى قفزة كبيرة للرئيس فلاديمير بوتين فى التاريخ. قفزة من نظام دولى متهالك إلى نظام دولى جديد.. ومجهول. العمليات العسكرية الروسية فى أوكرانيا مثل رصاصة انطلقت من القرن العشرين لتستقر فى قلب القرن الحادى والعشرين. هى لحظة تاريخية بكل معنى الكلمة.
يعرف بوتين، وهو رجل مخضرم عاصر القرن الماضى ويحاول ترك بصمته فى القرن الجديد، أن الحرب قرار والنصر إرادة. يعرف جيدا أن التاريخ دونه زمن يقدر من يدخله ومن يلفظه. بات واضحا استدعاء بوتين تاريخ روسيا القيصرية والسوفيتية من أوسع أبوابه فى كلمته التى وجهها إلى العالم عند بدء العملية العسكرية. هو زمن الخيارات الاستراتيجية، وحتما لا عودة إلى الوراء، بحساباته المعقدة.
فاضت الكتابات التى تبحث عن المبررات والأسباب التى دفعت بوتين للقفز من نظام إلى نظام. من روسيا إلى أوكرانيا. لا مبالغة فى القول إن ما بعد الغزو الروسى لأوكرانيا ليس كما قبله. هو زمن جديد.. فالعملية العسكرية الروسية لا تلغى اتفاقيتى مينسك (2014 ــ 2015) فقط، بل هى تنسف اتفاقية يالطا (1945) التى على أساسها أنشئ النظام العالمى بعد الحرب العالمية الثانية. نسفُ اتفاقية يالطا يستدعى البحث عن مصير النظام العالمى الفاقد للتوازن منذ ثلاثة عقود من الزمن لمصلحة أحادية قطبية. هى معركة بين روسيا من جهة وأمريكا ومعها دول الناتو من جهة أخرى. أوكرانيا مجرد ساحة للقتال والموت والدمار. فى ساحة الاقتصاد، تتشابك خطوط الطاقة ومن بعدها النفوذ. ثمة مصالح متشابكة ومعقدة أصلا. تداعيات الحرب الأوكرانية تتخطى حدود الأمن الأوروبى والروسى مجتمعين. انتفت الحدود بين أحواض البلطيق والأسود والمتوسط والأطلسى. فى الأمن الغذائى تعد أوكرانيا من أكبر مصدرى القمح فى العالم. تعطل الإمدادات سيؤدى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية المرتفعة أساسا جراء التضخم العالمى.
للمرة الأولى منذ العام ١٩٩١ يتمخض صراع جديد ــ قديم. لا أنتمى إلى جيل الحرب الباردة. جل ما أعرفه عن تلك الحقبة السياسية هو مجرد قراءات وقصص. نحن جيل أحداث الحادى عشر من سبتمبر. لم نكن نعرف المدى الاستراتيجى لموسكو وأن أوروبا الشرقية هى الخاصرة الحيوية لروسيا. غير أن أحداث أوكرانيا الحالية أعادت تشكيل عقارب التجربة الماضية. نحن جيل حرب أفغانستان وحرب العراق وحروب الربيع العربى وما بينها من ثورات وثورات مضادة وحروب أهلية مستمرة. غير أن الحرب الأفغانية أو «المصيدة الاستراتيجية»، كما سماها زبيغنيو بريجنسكى هى التى أسقطت الاتحاد السوفيتى ومعه النظام العالمى. مصيدة شكلت نقطة فاصلة فى مسار التاريخ..
الرئيس جو بايدن هو الوحيد الذى يملك ولا يقدر ولا يقرر. يعرف وهو الذى عايش الحرب الباردة أن الاتحاد السوفيتى لم يسقط من الخارج. سقط من الداخل. بعد أن وقع فى الفخ الاستراتيجى. «هناك فرصة» قالها بريجنسكى ومشى. لو كان على قيد الحياة لربما كان سيعترف أن الفرصة قد انتهت صلاحيتها. هو من اعتبر أن توسيع دائرة الصراع فى الشرق الأوسط من شأنه أن يسرع عملية انتهاء قيادة أمريكا للعالم، مشيرا إلى أن كتب التاريخ ستتذكر أمريكا بأنها أسرع إمبراطورية تخسر موقعها فى قمة الهرم الدولى. عشرون عاما كانت كافية لمزاحمة أمريكا فى قمة الهرم الدولى. الإمبراطورية الرومانية أخذت أكثر من ثلاثمائة عام لتسقط. الإمبراطورية العثمانية أخذت أكثر من مائتى عام. أما الإمبراطورية الإنجليزية فأخذت أكثر من مائة عام لتغيب عنها الشمس كباقى الدول.
• • •
مؤسف مشهد المجتمع الدولى. يراقب لعبة حافة الهاوية بلا حول ولا قوة. كل المؤسسات الدولية المنبثقة من رحم النظام الدولى ما بعد الحرب العالمية الثانية تقف عاجزة أمام الحدث الأوكرانى. الأمم المتحدة تقف على أرجل من ورق. الناتو يقف على أعصابه. ألمانيا تبحث عن دور جديد فى قيادة أوروبا ومنافسة روسيا، غير أن موقعها الجغرافى لا يسمح بالمناورة. باقى دول أوروبا محتارة. أفضل ما عند الغرب رئيس فرنسى يبحث عن دور أكبر منه ومن كرسى جلس عليه شارل ديجول يوما ما. أما بريطانيا الخارجة من حيرة الانضمام إلى القارة العجوز فإن رئيس حكومتها بوريس جونسون يبحث فى قاموس لغته عن مفردات تعيد قليلا من ماء الوجه. زمن خطابات تشرشل قد ولى. أوروبا تتمسك بمقولة أشهر الدبلوماسيين السوفييت أندريه جروميكو الذى قال فى معرض وصف القوة السوفييتية «صافح بيد واحمل الحجر باليد الأخرى».
لكن عقارب الساعة الاستراتيجية لا تعود. وما أخذ بالهزيمة لا يسترد بالتفاوض. حين استلمت واشنطن قيادة كوكب الأرض أقرت موسكو بالهزيمة. اليوم الرئيس بوتين يقول جاء دوركم لتقروا أن روسيا لم تعد مهزومة. بوتين يقف على أبواب كييف صحيح، لكنه يقف مستندا إلى ضعف أمريكى كذلك. يا ترى هل تصنع الأزمة الأوكرانية انفراجا عالميا طال انتظاره؟ ثم هل تملأ الأزمة فراغا فى القوة ممتدا من جبال أفغانستان وحتى سواحل البحر الأبيض المتوسط؟ رب قائل إن مرحلة اللا حرب واللا سلم قد طالت. ثم كيف لتوازن دولى أن يخرج من رحم التردد؟
• • •
القوة وحدها تحسم الصراع على النظام الدولى المزمع ولادته، سواء بالتوازن أو بالهيمنة. قوانين الطبيعة تفرض نفسها على الدول. حتى كتابة هذه السطور المعركة لم تحسم بعد. لكن روسيا لم تعد مهزومة. وأمريكا لم تعد منتصرة. وهذا تبدل كبير فى الميزان الاستراتيجى. صحيح أن لا قوة تطغى على القوة الأمريكية بفرعيها الصلب والناعم فى يومنا هذا. غير أنها أصبحت قوة تأثير لا قوة تغيير. وما العقوبات الاقتصادية المتعددة إلا خير دليل على ذلك. أيضا ما نشاهده من مناكفات روسية ومنافسة صينية لا يحسم الجدل الدائر عن مصير القوة الأمريكية. القوة الأمريكية مرهقة ومتعبة من الاستنزاف الذى خاضته جراء جروحها فى أفغانستان والعراق. جروح التهبت على مر الزمن بعوامل التاريخ والجغرافيا التى لا ترحم. لكنها تبقى قوة عظمى. والصين قوة صاعدة. أما روسيا فهى قوة مناكفة طالما لم تحسم نفوذها فى مدارها الأسيوى. أقله باتت تملك حق الفيتو.
مرة جديدة تفرض الجغرافيا أحكامها. أنقرة لابد أن تتخذ موقفا من الحدث الروسى ــ الأوكرانى. هى ضمن الناتو ولكن ليس ضمن اليورو. هناك قاعدة روسية فى سوريا جنوبا وعسكر روسى فى وضعية قتالية وهجومية فى الشمال. موقع الأناضول فى الخريطة السياسة تحدده الأيام المقبلة. ومعه جزء من المشرق العربى. دول الخليج العربى ومع بوادر الاتفاق النووى الإيرانى لا بد من إحياء مجلس التعاون الخليجى ضمن دائرة الغرب. والعمل على دفع ارتدادات الصراع الدولى عن حدوده. أما مصر التى تملك موقعا وقدرة على لعب دور ما هل تتحرك؟ إسرائيل محرجة وفى موقع غير مريح استراتيجيا. تحتاج إلى الحرب وتخشاها. دولة شخصيتها توسعية تجد نفسها محاصرة بخطوط حمراء تخشى اختراقها. الناتو وأمريكا لم يساعدا أوكرانيا، فهل يساعدان تل أبيب؟ بقى لبنان والعراق وكلاهما غربى الموقع وكذب المنجمون ولو صدقوا.
لا يمكن التكهن بمصير مستقبل النظام الدولى من دون فحص حدود القوة الأمريكية. مُحدداتها. مُركباتُها. مصادر قوتها... بالمقابل، لا بد من تفحص قدرة الصين وروسيا على مواجهة «الإمبراطورية». هل يستطيعان امتلاك مطبعة جديدة للعملة تخرجهما ومعهما كل من يقول لا من المدار الأمريكى؟ فى النهاية، لا بد من لغة مصالح قابلة لأن تتحول إلى طاقة قادرة على صنع نظام دولى جديد. إنه زمن الخيارات الاستراتيجية. لننتظر ونرَ.

كاتب سعودى

طارق فريد زيدان كاتب سعودي
التعليقات